عمرو منير دهب يكتب: المتنبي ومدرسة المشاغبين

وَهَبني قُلتُ هَذا الصُبحُ لَيلٌ ** أَيَعمى العالَمونَ عَنِ الضِياءِ

بلى، لقد عمِيَ العالَمون عن الضياء حيثما أوقعتَ في روعهم أنه الليل أيها المتنبي، والعالَمون ليسوا فقط عشّاقَك الذين أذهلهم شعرُك وإنما متابعوك عموماً على وسائل التواصل الأدبي والاجتماعي والإنساني منذ القرن الرابع الهجري وإلى يومنا هذا؛ أمّا الحانقون عليك من أعدائك الصريحين فشهادتهم مجروحة في قدرتك منقطعة النظير على العبث بما تتناوله وفق أهوائك وتمرير الحقائق المقلوبة بين الناس على أنها أصل الأشياء.

شاعرنا العظيم، بخطابه هذا في بواكير شبابه لأحمد بن إسحاق التنوخي، كان كأنما يبرئ ذمّته من تبعات انطلاء سحره على الناس؛ فإذا قال لهم فرية فصدّقوها والحقُّ واضحٌ أمامهم وضوح الصبح والشمسُ ساطعةٌ فتلك مسؤوليتهم لا ذنبه هو.

نرشح لك: "التفتيش في قلب المتنبي".. أحدث أعمال عمرو منير دهب

سِحْر المتنبي لم يقتصر على عشّاقه ولا متابعيه عموماً بل طال مهجوّيه كذلك، وقد رأينا من قبلُ أن عنصرية المتنبي العرقية لا تزال موضع حفاوة حتى في البلاد التي ألهبت تلك العنصريةُ ظهورَها بسياط هجائه الفاحش.

أشرت في مقال سابق إلى أنني لم أفلح في إقناع شاعر زميل شاب في مصر أيام الدراسة الجامعية بفضل أحمد شوقي على الشعر العربي في ضوء مقارنة من طرْف شبه ظاهر مع المتنبي، وكان الشاعر المصري الشاب – كما افترضتُ – أولى بالدفاع عن قيمة وأثر أمير الشعراء، ولكن بدا جليّاً أن ذلك إذا كان ممكناً فليس في حضرة المتنبي.

مع مصر تحديداً، لا تتبدّى مفارقة مكانة المتنبي شديدة الخصوصية عند المقارنة مع شوقي بقدر ما تكمن في هجائه مصرَ وأنماط عيشها بل وسكّانها بصفة عامة كما لم يفعل مع أي مكان آخر وطئته قدماه. وقد بلغ طه حسين مستوى رفيعاً من الدقة في تفسير/تبرير إعجاب مهجوّي المتنبي في مصر بشعره المقذع فيهم حين قال في "مع المتنبي"، نقلاً عن نسخة على الإنترنت: "وأنا أعترف بأني لا أرى كل هذه الخصومة إلا لغواً لا خير فيه، فقد غضب شاعر من الشعراء على أمير من الأمراء فهجاه، بعد أن رضي عنه فأثنى عليه، وهذا شيء يكون فِي كل زمان ويكون فِي كل مكان، وما ينبغي أن نحب الشعراء أو نبغضهم لأنهم مدحوا أو هجوا، ولأنهم مدحونا نحن أو هجونا، وإنما ينبغي أن نعرف الشعراء أو ننكرهم لأنهم مدحوا فأحسنوا المدح، وهجوا فأجادوا الهجاء".

يواصل طه حسين تفسيره/تبريره الرائع: "ليس يُطلب إلى الشَّاعِر حين يهجو أن يقول حقًّا، إنما يطلب إِلَيْهِ أن يتقن الإساءة إلى من يهجو، ويبرع فِي التشهير به والتشنيع عليه، فأمّا أن يكون صادقاً أو كاذباً، فأما أن يكون مرضياً للأخلاق أو مخالفاً عن أمرها وقانونها، فهذا شيء لا يعني الفن بحال من الأحوال، وقد كذب الفرزدق على جرير، وكذب جرير على الفرزدق، وكذب غير الشاعرين عليهما جميعاً، وقُضِي لهؤلاء الشعراء بالبراعة فِي الهجاء".

غير أن عميد الأدب يبدو مجانباً الدقةَ حين يقول: "وكذلك ضحك الناس من كافور، وما يزالون يضحكون منه إذا قرؤوا أو سمعوا هجاء المتنبي له، ولكنهم لا يزدرونه ولا يحقرونه، وإنما يضحكون منه في شيء من العطف وكثير من الإعجاب، فإذا أنكروا أحداً فهم ينكرون الشَّاعِر الذي أعطى ثم أخذ، ومنح ثم استرد، وقال ثم كذب نفسه، وهم حين يضحكون من هَذَا الشَّاعِر لا يبخلون عليه بالإعجاب والإكبار، فهم يكبرون فنه وبراعته فِي تصريف الكلام، ولكنهم يصغرون رأيه ويحقِّرون خُلقه، ولا سيما حين يكون هَذَا الرجل مكبراً لنفسه كما أنَّ المتنبي يكبرها".

ذلك قد يكون رأي طه حسين نفسه ومشاعره حين يسمع هجاء المتنبي لكافور، ولكن الناس عموماً أعجِبوا بالشاعر العظيم ولم يحفلوا بعدها بما إذا كان كافور مستحقاً لذلك الهجاء الذي أطربهم أم لا، بل الأرجح أنهم صدّقوا فرية المتنبي في حق الحاكم العصامي منقطع النظير.

يواصل عميد الأدب في براعة وجرأة لم تكن بالغريبة عليه: "ولعله هجا المصريين فوُفق لتصوير شيء من مواطن الضعف فيهم، ومن ذا الذي لا حظ له من ضعف؟ وأنا أعتذر — إذا لم يكن بدٌّ من الاعتذار — من الإعجاب ببعض هجاء المتنبي للمصريين... وما أكثر الظروف التي تدفعنا جميعاً إلى أنْ نتمثل فِي شؤون أنفسنا بالأبيات التي ذكرناها آنفاً من شعر المتنبي (يشير إلى مقتطفات أوردها من هجاء المتنبي لكافور وأنماط العيش في مصر حينها) دون أنْ يمسنا من ذلك أذي أو يلحقنا منه عار، والشعب الكريم كالفرد الكريم خليق أنْ يعرف عيب نفسه ويجدَّ فِي إصلاحه ما وجد إلى ذلك سبيلاً.... ولست أعرف أصدق فِي مصر ولا أبرع فِي تصويرها من هَذَا البيت الأخير (نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصْرٍ عَنْ ثَعَالِبِهَا ** فَقَدْ بَشِمْنَ وَمَا تَفْنَى الْعَنَاقِيدُ). وما أري إلا أنَّ المتنبي قد أُلهِم البلاغة والحكمة حقّاً، حين وُفِّق لهذا البيت الذي يختصر لوناً من حياة مصر منذ أبعد عهودها بالتاريخ إلى هَذَا العهد (يقصد بدايات القرن العشرين) الذي نحيا فيه".

بلغ المتنبي الغاية إذن ليس في حمل مهجوّيه على التغاضي عن هجوه إيّاهم فحسب وإنما في حثّهم على الإعجاب بذلك الهجاء حبّاً وكرامة؛ وهو إعجاب يتخطّى فن الشاعر و"براعته فِي تصريف الكلام" إلى شدّة التعلّق بالشاعر نفسه بما يقارب التوحّد معه في رؤيته بحيث ينقلب المهجوّ إلى ثائر مستلذّ بجلد الذات.

صبّ المتنبي كؤوس غضبه على الأعراق والأجناس والبلاد والعباد فأدهشه كلُّ أولئك المغضوب عليهم من غير الضالين وهم يتلقّفون ذمّهم ذاك ويذيعونه معه في الآفاق، فلم يزده ذلك سعادةً واطمئناناً بقدر ما زاده غروراً وأكسب تعاليَه - الذي عدّه أعداؤه والمقسطون من نقّاده زائفاً - مصداقيةً وأضفى عليه ضرباً من الشرعنة.

في "مدرسة المشاغبين"، مسرحية السبعينيات الهزلية التي طبّقت شهرتها الآفاق، وضمن استعراض غنائي "فانتازي" أواخر المسرحية، يوقف العسكري (الذي يقوم بدوره ناظر المدرسة في استعراض تمثيلي داخل المسرحية نفسها) الشاعرَ المعتدَّ بذاته على الطريق ويسأله بالعامية المصرية بطبيعة الحال: "معاكش بطاقة؟"، فيجيبه الشاعر مستنكراً: "وأشيلها ليه، دا أنا أمير الشعراء أحمد شوقي بيه"، فيردّ عليه العسكري/الناظر متحدّياً: "لمّا تكون المتنبي، ممعاكش بطاقة.. عالقسم يا بيه".

باستلهام ذلك المشهد في قراءة ما وصل إليه شاعرنا المجيد، تبدو مكانة المتنبي الاستثنائية كما لو أنها انتقلت من حيز الجدال النقدي في الأدب إلى فضاء البديهيّات الشعبية في الوجدان العربي.

للتواصل مع الكاتب: ([email protected])