المتنبي وشوقي في بدايات التكوين الأدبي، الجاحظ والمازني والعقّاد مع الولع بالمقالة، الطيب صالح على صعيد الانتباه إلى فتنة الرواية والتصالح معها، يحيى حقي في النظرة المتميّزة إلى الفن والنقد، جهاد الخازن مع جاذبية المقالة الحديثة بالغة البساطة، محمد مستجاب في الكتابة الخارجة عن المألوف صياغةً ومراميَ مع أكثر من جنس أدبي، حجّاج أدّول بالانتباه إلى جماليات القصة القصيرة الفاتنة، أسامة أنور عكاشة في انتزاع النجومية بقوّة الإبداع المتميّز، جابر عصفور مع الصياغة المحكمة للآراء النقدية المتباينة، محمد وردي بالثقة العميقة في أصالة الإبداع المحلّي، العقلية النقدية المغاربية في الانفتاح الجريء والاختلاف الواثق، محمد منير دهب على أوسع نطاق فكري ممكن منذ ما قبل بدايات التكوين الأدبي.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المتنبي ومدرسة المشاغبين
ليس يسيراً في كل الأحوال أن تنتبه إلى مَن ألهمك، أو على الأقل لم يكن ذلك يسيراً بالنسبة لي شخصياً، خاصة في ظلال رؤيتي للإلهام بوصفه عملية تقع تلقائياً أكثر وأفضل ممّا تحدث عن سبق إصرار وترصّد؛ بل كثيراً ما تساءلت مشكّكاً ومستنكراً: هل من الممكن أن يقع الإلهام بالترصّد؟
الإلهام منّة عظيمة، لذلك - على الأرجح - ليس من السهل أن يبادر أيٌّ من المبدعين إلى الإقرار بفضل من ألهمه قبل أن يتأكّد من أن ذلك الفضل ظاهر وأنّ المُلهِم شخصية إن لم تكن ودودة في إطار علاقة واقعية أو افتراضية من أي قبيل فهي على الأقل ليست منفّرة أو فاترة في استجاباتها بصفة عامة وللإقرار بفضلها على وجه التخصيص؛ وإنْ أكن شخصيّاً قد غامرت فبادرت إلى الإشارة ابتداءً لأفضال فيوض الإلهام من مبدعين بعضُهم أعرفه حق المعرفة وأجلّه حق الإجلال وبعضهم لم تربطني به علاقة أو معرفة من أي قبيل – لاستحالة الأمر كما هو الحال مع الجاحظ على سبيل المثال – وآخرون علاقتي/معرفتي بهم بين بين.
بصرف البصر عن طبيعة العلاقة بالشخصية الملهِمة، يبدو الاستلهام كدَين يبدأ سداده بمجرد الإقرار به حتى إذا كانت الشخصية الملهِمة لا تعرف عن هذا الدَّين شيئاً ولا تنتظر ردّه تبعاً لذلك، لكن الملهِم يكون سعيداً على كل حال عندما يتلقّى إقراراً ممّن ألهمه، والأرجح أن السعادة تكون مضاعفة عندما يكون الإقرار بمثابة الهدية غير المتوقعة تماماً.
غير أن ردّة فعل الشخصية الملهِمة لا تعنينا في هذا المقام قدرَ ما تعنينا طريقة الاستلهام ومَن تمّ إلهامه وماذا سيصنع بما أُلهِمَه فيما بعد. وإذا كنّا قد أكّدنا أن الإلهام الأعمق والأروع هو ذلك الذي يقع عفويّاً فإن من المهم بصورة موازية الانتباه إلى أن تلقائية الإلهام تتطلّب عقلاً/وجداناً منفتحاً، إذ قلّما يطرق الإلهام أبوابَ إبداع لا يصيخ صاحبُه لما حوله ويصرّ على النظر في اتجاه واحد واتّباع منهج بعينه؛ إذ كثيراً ما يركض الواحد خلف الإبداع على طريق ومواهبُه وفيوض الإلهام تنتظره على غيره من الطرق.
بالعودة إلى سيرتي الذاتية مع الإلهام/الاستلهام، فإن قائمة مَن ألهموني على الصعيد الأدبي هي لا ريب أطول ممّا اشتملته الفقرة الأولى من هذا المقال؛ وإذا كان في وسعي – بقليل من الصبر والاجتهاد – الاستطراد في ذكر الأسماء التي أفاءت عليّ بظلال إلهامها في هجير سوح الإبداع الفسيحة، فإن الإلمام بالقائمة الكاملة لأولئك الملهِمين مسألة أقرب إلى المستحيل، ليس لطول تلك القائمة ابتداءً وإنّما لسبب آخر أشدّ وجاهة، إذ من الصعب عليّ – بل من المستحيل – أن أزعم أنني أعرف/أستوعب كلّ من ألهمني مباشرة على الصعيد الأدبي، فضلاً عن أولئك الذين كانت لقبسات إلهامهم أفضال غير مباشرة من طرْف خفيّ لكنه مؤثِّر في التوجيه والتحفيز على التحليق في سماوات الإبداع وهم ليسوا من السابحين في تلك السماوات ذاتها بالضرورة.
بذلك، فإن المبدع لا يجب أن يصيخ إلى ما عساه أن يكون ملهماً داخل مجاله فحسب، بل من الخير له أن يمتدّ بسمعه وبصره ووجدانه خارج ذلك المجال ما وسعه الامتداد؛ ولأن الإلهام/الاستلهام أعمق وأروع تلقائياً، فليس مطلوباً من المبدع أن يتكلّف مشقّات التنقيب والتفتيش في كل مكان عن ضالة لا يعرف مكانها ولا زمان استجابتها على وجه الدقة أو حتى التقريب؛ الأهم أن يترك المبدع أبواب وجدانه ونوافذه ومسامّه جميعها مشرعة لاستقبال نفحات الإلهام المحتمل ورودُها من كل صوب؛ ولا خوف على قريحة أصيلة من جرثومة إلهام فاسد قد تتسلّل عبر تلك الأبواب/النوافذ/المسامّ المشرعة، فجهاز مناعة القريحة الأصيلة يعمل بدوره بشكل تلقائي بديع.
نحن جميعاً في كل مجال على اختلاف مواقعنا ملهِمون وملهَمون؛ وإذا كان دَين الاستلهام يبدأ سدادُه بمجرد الإقرار به، فإن سدادَ ذلك الدَّين يكتمل عندما يبرز من إبداعنا على أي صعيد ما يصلح لأن يُلهم آخرين ليسوا بالضرورة أصحابَ الفضل الذين غمرونا بإلهامهم ابتداءً؛ فكأنّ الإلهام أمانة يتلقّاها بعضُنا عن بعض ويؤدّيها بعضنا إلى بعض دون اعتبار لمن أخذ عن مَن ومَن أدّى إلى مَن؛ نحن مع الإلهام أشبه بأدوات مستقبلة وموصلة، ليس من الحكمة أن تكفّ عن الاستقبال ولا من الخير أن تمتنع عن الإيصال؛ وظنّي أنه ليس في وسعها أصلاً أن تكفّ عن هذا أو تمتنع عن ذاك، فالإلهام - والحال كتلك – ليس أعمق وأروع فحسب عندما يكون تلقائياً وإنما هو لا يكاد يكون إلّا تلقائياً.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])