عمرو منير دهب يكتب: استغلال السلطة الأدبية

في بدايات التسعينيات رحتُ أنشد في نشوة شعرية عميقة بعض قصائدي على الرجل الذي يكبرني بنحو عقدين، والذي ستتعمّق معه لاحقاً صداقتي الأدبية إلى حدّ ما. بدا الرجل الصارم في تذوّقه الشعري يستمع في اهتمام وتقدير لما أقول، ثم أوقفني فجأة سائلاً: ماذا تعني بهذه الكلمة؟

كنت جاهزاً للردّ في ثقة واعتداد، فقد كان ما لجأت إليه – أو لعلي عمدت إليه في فخر – ضرورة شعرية أخذتها عن المتنبي في قصيدته الشهيرة:

لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ ** أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ

والضرورة هي حذف نون "مِن" عند دخولها على ال/لام التعريف إذ يقول في ممدوحه أبي الفضل بن عبد الله:

وَلَدَيهِ مِلعِقيانِ وَالأَدَبِ المُفا ** دِ وَمِلحَياةِ وَمِلمَماتِ مَناهِلُ

وقد ذهب الواحدي ككل شرّاح الديوان تقريباً إلى أنه "أراد "من العقيان" وهو الذهب فحذف النون لالتقاء الساكنين وخُصّت النون بالحذف لمناسبتها حروف العلّة بالغُنّة".

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المتنبي وكسر الجدار الرابع

لم يُقنع هذا الاستشهادُ – الذي ظننتُه مفحماً - الشاعرَ الصارم رغم تقديره لي، ولم يزد في ردّه على أن قال ما مفاده: ذلك المتنبي، أمّا أنت فلماذا تلجئ نفسك إلى مثل ذلك. والمراد واضح، فشاعر العرب الأشهر سيجد له ألف شافع من النقاد والمعجبين يبررون له ضرورته تلك، وله من قبلُ في سطوة شعره نفسه ما يدفع القارئ إلى تقبّل الضرورة الشعرية ليس في استساغة فحسب وإنما في إعجاب كبير، فمن أين لي – بحسب تشريح كلام صديقي - مثل هذا؟ وعلى "عنادي" في الشعر، يبدو أنني أخذت بنصيحة صديقي الكريم ذاك فعدلت عن تلك الضرورة أو لعلّي حذفت البيت كاملاً من ديواني الذي صدر لاحقاً بعد نحو ثلاثة عقود؛ ولن أستغرب إذا عدت فدقّقت ووجدت أنّي قد حذفت القصيدة كاملة أو اكتفيت منها بنُتَف متفرقة من الأبيات.

غير أن المتنبي نفسه لم تتسنّ له تلك المنزلة بين عشية وضحاها، بل خاض من أجلها حروباً معنوية ومادية شرسة، فقد جادل العامة والخاصة من أهل اللغة والأدب وناظرهم، وطارح في تعالٍ واضح زملاءه الشعراء، وكان أبلغ صور تعاليه في مطارحة زملائه الشعراء إهماله إيّاهم، بل تجاهلهم بالمعني الحرفي، أي تصنّع الجهل بهم؛ وهو لم يفعل ذلك في حق مَن هم دونه منزلة من الشعراء المعاصرين له فحسب وإنما في الفحول الذين سبقوه على حدّ سواء، إذ كان نادراً ما يذكر شاعراً فحلاً بخير أو شرّ، وكان ينكرهم أو يتجاوزهم حتى عندما يقتضي المقام. وقد ذكر ذلك طه حسين في "مع المتنبي" (نقلاً عن "الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" على الأرجح، بحسب هوامش مصادر كتاب طه حسين من نسخة على الإنترنت) في معرض إشارته إلى مدح شاعرِنا عبدَ الله وأخاه أبا عبادة ابني يحيى بن البحتري الشَّاعِر، يقول طه حسين: "نلاحظ أنه فِي هذه القصائد الثلاث لم يذكر البحتري الشَّاعِر جدَّ ممدوحيه ولم يشر إليه، ولعل هَذَا يلائم ما كان معروفًا عَنْ المتنبي من الإمعان فِي قراءة شعر المحدثين وأدب البلغاء، والادعاء مع ذلك أنه لا يقرؤهما ولا يحسن العلم بهما، حَتَّى افتضح فِي ذلك".

لم يكن معاصرو المتنبي إذن يستسيغون ضروراته الشعرية، بل ظل الشاعر العظيم – بعيداً عن الضرائر الشعرية تحديداً - متّهَماً بـ"الغريب الوحشي"، ومن أمثلة غريبه ما يورده أبو منصور الثعالبي في "يتيمة الدهر" – نقلاً عن نسخة على الإنترنت - وهو يبحث في ما لأبي الطيب وما عليه: "فمن ذلك الفن الذي ينادي على نفسه، ويقلق موقعه في شعره وشعر غيره من أبناء عصره قوله (من الوافر): وما أرضى لمقلته بحلم * إذا انتبهت توهمه ابتشاكا. والابتشاك: الكذب، ولم أسمع فيه شعراً قديماً ولا محدثاً سوى هذا البيت. وقوله في وصف الغيث (من الوافر): لساحيه على الأجداث حفش * كأيدي الخيل أبصرت المخالي. الساحي: القاشر، ومنه سميت المسحاة لأنها تقشر وجه الأرض، والحفش: مصدر حفش السيل حفشاً، إذا جمع الماء من كل جانب إلى مستنقع. وقوله (من الكامل): الشمس تشرق والسحاب كنهوراً. الكنهور: القطع من السحاب العظيمة".

والثعالبي، وإن يكن ذكر من محاسن المتنبي ما يفوق معايبه عدداً، فقد أحصى من تلك المعايب أكثر من خمسة عشر عنواناً من قبيل "قبح المطالع" و"إتباع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء" و"استكراه اللفظ وتعقيد المعنى" و"عسف اللغة والإعراب" و"الركاكة والسفسفة بألفاظ العامة والسوقة ومعانيهم" و"إساءة الأدب بالأدب"، وحتى "الخروج عن الوزن".

برغم تلك المعايب، ورغم أضعافها كمّاً ونوعاً ممّا كاله له أعداؤه خالصو العداوة، ظلّ المتنبي سلطة أدبية تفرض رأيها اللغوي ولا تنتظر إجازة الآخرين من العامة أو الخاصة لما يصدر عنها من إبداع.

هذا، ولا يُلتمَس أبلغ دلائل سلطة المتنبي اللغوية/الشعرية/الأدبية في ما أثار انتباه نقّاده من غرائبه على مرّ العصور بقدر ما يكمن في ذلك الذي انسرب إلينا جميعاً بالقبول حبّاً وتلذّذاً وكرامة. ولا أزال أرى - على سبيل المثال في هذا المقام – أن حلول الندم في قلوب من قد يفارقهم المتنبي (سيف الدولة تحديداً) كان من الممكن التعبير عنه بالعديد من الكلمات الموحية – مع ما يلزم من معالجة التركيب اللغوي لموافقة الوزن – من قبيل "ينهشهم"، "يؤرقهم"، "يقضّ مضجعهم"، "ينالهم"، "يصيبهم"؛ لكن الشاعر العظيم استخدم تعبيراً بالغ الركاكة: "يحدث لهم ندم"، وذلك في قوله ذائع الصيت:

لئنْ تَرَكْنَ ضميراً عن ميامِنِنا ** ليَحْدُثَنَّ لِمَنْ وَدَّعتُهم نَدَمُ

أمثال تلك التعابير الركيكة والكلمات الغريبة - وغيرها ممّا يمكن أن يُعدّ مآخذ صريحة على الشاعر العظيم - يمرّ مرور الكرام لأن ثمة غيره في القصيدة ذاتها، بل في البيت نفسه أحياناً، من جمال اللغة وبراعة الأسلوب وروعة الموسيقى وعمق المعني الشعري ما يفتن الأنظار بحيث يتشتّت انتباه القارئ عن تلك الركاكة منصرفاً إلى ما يطغى عليها من البداعة والبراعة لا في المعنى فحسب وإنما في المبنى بصورة موازية.

اكتسب المتنبي ما أشرنا إليه من سلطة أدبية من جهتين رئيستين: الأولى براعته الشعرية منقطعة النظير، والثانية – وهي لا تقلّ تأثيراً عن الأولى – شخصيته المصادمة وتشبّثه برأيه في الحق وفي الباطل، والأرجح أنه كان يرى كل ما يقوله ويفعله حقّاً محضاً؛ فأجاز لنفسه بذلك أن ينام ملء جفونه عن شوارد كلماته، ليس لأنه يعلم أن لكلماته الشاردة معاني خافية سيدركها الخلق بالسهر والاختصام بل لكونه على ثقة من أن جماهير العامة ونخب الخاصة ستبحث له عن تفاسير لتلك الشوارد، فإن لم تجد فستعدّها ابتداعاً يؤسّس لما بعدها، وفي أسوأ الأحوال ستتجاوزها إلى ما عداها من الجمال الشعري بنفوس راضية وأذهان مبجِّلة.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])