أجمل الاكتشافات ما ساقك إليه محضُ الصدف؛ وإذا كانت الصدفة (الحظ) تبدو جوهرية التأثير في كل شيء تقريباً، فإن المقصود بـ"محض الصدف" هنا ألّا يكون ثمة مؤثّر أو دالّ مباشر على الاكتشاف كشخص بعينه أو حادثة محدّدة.
ظللت أتجوّل على الإنترنت - تحديداً الـ"يوتيوب" - للبحث عن قصائد عربية كلاسيكية ملقاة/مؤدّاة بإتقان للمتعة (والفائدة؟) خلال رحلات طويلة نسبياً بالسيارة أو على مدى فترات أقصر ولكن أسرع بعثاً على الضجر وأنا أمارس رياضة المشي السريع على الجهاز الذي يشير اسمه في الإنجليزية Treadmill فيما يشير من الدلالات إلى العمل الروتيني المضجر.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: استغلال السلطة الأدبية
بعد تجربة بديعة من الإنصات إلى عروض أداء صوتي رائعة، انتبهت إلى أن في وسعي الاستماع إلى قصائدي المفضّلة مغنّاة، وهو ما لم أكن أجهله من قبل بطبيعة الحال ولكنني لم أكن أفضّله لبضعة أسباب أهمّها أنني لم أرِدْ أن تشغلني روعةُ الغناء – ألحاناً وأداءً - عن روعة القصيدة مجرّدة؛ ولكنّ ذلك حدث، غير أنه لم يقع تماماً كما كنت أتوقّع/أخشى، إذ لم يُمتعني الغناء ألحاناً وأداءً بما صرفني عن القصيدة ذاتها وإنما بما زاد من اكتشاف مواضع الجمال في كل قصيدة مغنّاة وعمّق تذوّقي النقدي لتلك المواضع بصورة موازية.
اكتشاف الصدفة المحضة الذي أشير إليه في هذا المقام هو صوت فدوى المالكي بألحان ممدوح الجبالي؛ وليس من الدقة بحال اختصار روعة أداء فدوى في كلمة صوت وحدها، فالإحساس الذكي والعميق يحيط بالصوت النادر بل يمتزج به امتزاجاً فريداً.
الدقة واجبة بطبيعة الحال في معالجة قضايا الموسيقا والغناء النقدية، بل حتى على نطاق استعراض التذّوق الجمالي الخالص في هذا السياق؛ والدقة واجبة ومهمة مع أي سياق نقدي أو بحثي على كل حال. وإذا كنت – على صعيد التجربة الشخصية – قد أفردتُ كتاباً مستقلاً في تأمّل إبداع المطرب والملحن السوداني العملاق محمد وردي، فإن إثباتي منذ عنوان ذلك الكتاب كوني "مستمعاً غير محترف" لم يمنعني من تحرّي الدقة خلال عملية النقد/التذّوق الفني المعقدة التي انبنى عليها الكتاب لمجمل أعمال الرجل.
أدخل إذن عالم فدوى المالكي – في صحبة ألحان ممدوح الجبالي تحديداً – بمزيج من الحرص على الدقة إزاء المصطلحات الفنيّة والانفتاح في حضرة التذوق الفني/الجمالي الفسيح.
تبدو مميزات أداء فدوى اللافتة متوازية، لا تشدّك إحداها قبل الأخرى أو على حسابها في الغالب، وإن تكن كل تجربة استماع تُبرز سمة مائزة بصفة خاصة، ليس لأن تلك السمة تطغى على غيرها بالضرورة وإنما لأن السياق الذهني أو النفسي للمتلقِّي في تجربة بعينها يغرى بالالتفات إلى سمة محددة بصورة خاصة؛ ولكن أيضاً بما لا يحجب المميزات الأخرى؛ فكأنّ سمات أداء المطربة الفريدة يزاحم بعضها بعضاً في التألق ولا يطغى أيّ منها على الآخر في الوقت ذاته.
صوتٌ قوي عريض المساحة، مرِن وعذب؛ ولن أغرق في الإشارة إلى مواضع العذوبة وتأكيدها لأنها نسبية بطبيعة الحال. سيطرة غير متكلّفة واثقة وهادئة على النفَس، تنقُّل سلس بين النغمات المختلفة، مهارة في تكرار النغمات المتقاربة دون إخلال بالإحساس، براعة في تباين سرعات أداء النوتات مع الزخارف الغنائية المتباينة، إحكام في أداء التتابعات اللحنية صعوداً وهبوطاً، ثقة رصينة في الأداء على اختلاف المقامات ودرجاتها وتباين الإيقاعات.
تلك، إجمالاً، مميزات صوت فدوى الفريد الذي لا تغتر صاحبته بإمكانياته النادرة فتنجرف إلى مبالغات استعراضية في الأداء على حساب الإحساس الذي هو بمثابة الدرة التي تُبرز تاج الأداء، بل الهالة التي تلف الأداء برمّته فتزينه وتباركه سموّاً وإجلالاً.
ذلك عن الصوت والأداء إجمالاً، فماذا عن مخارج الحروف تحديداً؟
لا تنشغل المطربة المغربية الرصينة بالضبط اللغوي المجرّد للحروف على حساب الأبعاد الأخرى للأداء الصوتي والانفعال الطربي الذكي، لكن انتباهها إلى مخارج وسمات كل حرف على كل حال لافتٌ وبديع كما يتجلّى – على سبيل المثال - مع أحاسيس الهاء الخارجة من أقصى الحلق محمّلة بلواعج الصدر، وصفير الصاد المنضبط، و"أزيز" الزاي الناعم، وهمسات التاء اللطيفة، و"بحّات" الحاء الحانية، و"حشرجات" الخاء الخاطفة، وتفشّيات الشين الشاردة، وانفتاح الفاء ورخاوتها الوادعة، وجهر العين الساطعة، إلى غير ذلك من الالتفات الدقيق والإحساس الرفيع بكل حرف في كل كلمة من الجملة الشعرية واللحنية على حدّ سواء مراعاةً لمقتضيات الأداء المعنوية وتوازناً دقيقاً بين تحدّيات التنويعات الإيقاعية وجماليات التنقّلات النغمية، كل ذلك – كما سلفت الإشارة - يزينه إحساس بالغ التميز يحيط بالأداء مجملاً إحاطة محكمة ولطيفة في آن معاً.
إزاء تلك الخصوصية النادرة، ألا تبدو قلّة متابعي المطربة الفريدة – حتى بالقياس إلى بنات وأبناء جيلها من غير المنتمين إلى الطبقات الأولى في الشهرة والحظوة - أمراً يستدعي الانتباه؟ الإجابة: نعم ولا. أمّا "نعم"، فلأن أمثال فدوى المالكي يستحقون حظاً عظيماً من الحظوة والشهرة بما بلغوه من المنزلة الفنية الرفيعة؛ وأمّا "لا"، فلأن استحقاق الحظوة والشهرة لا يعرف قاعدة سوى ما تحقق بالفعل على أرض الواقع حتى إذا كان مخالفاً تماماً لكل التوقعّات "المنطقية".
وإذا كنّا قد عرضنا لمفارقات الحظوة والذيوع بتفصيل في "لوغاريتمات الشهرة"، فإن أمثال فدوى المالكي – من المبدعات والمبدعين على اختلاف مجالاتهم – يبدو الواحد منهم كما لو كان مشروعاً فنّياً عظيم الإمكانيات لم يحظ من الظروف التاريخية بما يصعد به إلى مقام الأسطورة. وقد كان حريّاً بأمثال تلك المشاريع الفنية العظيمة غير المحظية – وقد عزّ عليها أن تسمو إلى المقام الأسطوري – أن تبلغ منزلة نصف أسطورية أو ربع أسطورية أو ثمن أسطورية، إلى غير ذلك من أجزاء "الواحد الأسطوري الصحيح" مهما يكن ضئيلاً؛ بيد أن مفارقة لوغاريتمات الشهرة تتضاعف عندما يكون حظ أولئك منطقةً متواضعة من الشهرة بعيداً عن أي مقام أسطوري، ولكن – لا ريب – في صميم القيمة الفنية الرفيعة، وبما نرجو أن يمهّد في زمان لاحق – عاجل أو آجل – إلى انتزاع المقام الأسطوري المستحق.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])