عمرو منير دهب يكتب: فضيلة الإصرار على الخطأ

في "طريق الحكمة السريع": 

"النجاح أن تعتنق أية فكرة خطأ وتصرّ على تنفيذها".

"النجاح قدرتك على أن تتجاوز الحقائق المحبطة لتنجز الأوهام التي يقال إنها مهمّة".

"فقط بعد أن تثق في أخطائك يغدو باستطاعتك أن تواصل النجاح".

بذلك في الاعتبار، ليس المتنبي فحسب وإنما كل من ترك أثراً بإنجاز عظيم على أي صعيد كان مدركاً أن النجاح ليس منوطاً بصحة/خطأ ما يعتقده قدر ما هو منوط بالإصرار على ذلك المعتقد والمثابرة من أجل تنفيذه.

نرشح لك: عمرو منير دهب: فدوى المالكي والمقام الأسطوري المُفتقَد

لم يكن المتنبي إذن بدعاً في هذا ، لكنه على الأرجح بلغ الغاية في مجاله عربيّاً، فقد حطّم الرجل كما رأينا تابوات الخطاب الشعري العربي التقليدي، و"ما حطّمه المتنبي لم يكن فحسب المسافة التي تفصل المتلقي عن المبدع بكسر الجدار الرابع الوهمي وإنما حطّم كذلك احترامَ خصوصية القارئ واحترام آرائه ومشاعره، بل احترامَه (القارئ) هو ذاته جملةً واحدة"، فهو بذلك لم يصرّ على خطأ عام يمكن الاختلاف بشأنه وإنما أصرّ على التقليل من شأن كل من يتوجّه إليه بالخطاب، ليس لصالح ذات عليا خفية وإنما لصالحه هو شخصياً بالتقليل من شأن القارئ عن طريق التحرّش به بمناسبة وبدون مناسبة، أي افتعال معركة مع الجمهور ليست موجودة من قبل لكن من الضرورة في عرفه أن توجد؛ وتفصيل ذلك متاح على وجه العموم في أكثر من مقال سابق، وفي "كسر الحاجز الرابع" الذي اقتطفنا عنه الكلمات السابقة بصفة خاصة.

لا يسلم شاعر بطبيعة الحال من الخطأ، ولم يسلم شاعر عربي من انتباه النقّاد لأخطائه، لكن المتنبي تحديداً ظفر على الأرجح بأكبر انتباه من النقّاد للأخطاء الفنيّة التي ارتكبها شاعر، وهو انتباه موازٍ للحفاوة التي حظيت بها قصائده من الخاصة والعامة على حدّ سواء؛ ولكنّ الجدير بالالتفات إليه على هذا الصعيد هو موقف شاعرنا من كل ذلك، فقد بدا غير عابئ بالحفاوة لأنه يرى نفسه يستحقها بداهةً، بل بدا على الأرجح غير راضٍ عمّا ناله في حياته من الاهتمام كمّا ونوعاً لأنه كان يطمح إلى ما هو أبعد من ذلك كثيراً من صور المجد، والمفارقة أن تلك الصور التي كان يطمح إليها ليست شعرية أو أدبية قدر ما هي سياسية؛ وتتعاظم المفارقة حين نتأمّل كيف أنه بلغ في الشعر أسمى المنازل في حين تطلّع من مجد السياسة إلى ضيعة أو ولاية لا غير.

هذا عن استجابة شاعرنا تجاه ما لقيه من حفاوة، فماذا عن استجابته لما تعرّض له من النقد؟ بطبيعة المتنبي الثائرة، ليس غريباً أن تأتي ردّات فعله حادّة، بل بالغة الحدّة تجاه نقد مواقفه وانفعالاته على الصُّعد السياسية والاجتماعية والشخصية؛ لكن ماذا عن مواقفه وانفعالاته تجاه أخطائه – أو على الأقل نقده – في القضايا الفنية الصرفة في الشعر؟

نهَج المتنبي أساساً منهج المتجاهل الذي لا يرى الإهمال جديراً بمناوشيه فحسب وإنما دواءً ناجعاً لمناوشاتهم:

وَأَتعَبُ مَن ناداكَ مَن لا تُجيبُهُ ** وَأَغيَظُ مَن عاداكَ مَن لا تُشاكِلُ

كما أنه اعتمد سياسة الردّ التلقائي المتضمّن في الرسالة المعادية نفسها بالنظر إلى حظ المعتدي المتواضع من المعرفة:

وَإِذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ ** فَهِيَ الشَهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِلُ

وهو لم يتحرّج عن إخفاء تعاليه البتّة، غيرَ مبالٍ أن يرمي أهلَ عصره كلهم بتواضع/انعدام الفهم:

مَن لي بِفَهمِ أُهَيلِ عَصرٍ يَدَّعي ** أَن يَحسُبَ الهِندِيَّ فيهِم باقِلُ

غير أنه لا يستنكف عن ادّعاء بعض التواضع بالتماس المبررات المنطقية/الأخلاقية التي حدته إلى تعالٍ لم يجد بدّاً منه:

وَما التيهُ طِبّي فيهِمُ غَيرَ أَنَّني ** بَغيضٌ إِلَيَّ الجاهِلُ المُتَعاقِلُ

وحين يتبنّى مهاجموه سياستَه في التجاهل، فلا بأس بالتماس العذر لهم على سبيل التهكّم:

وَإِذا خَفيتُ عَلى الغَبِيِّ فَعاذِرٌ ** أَن لا تَراني مُقلَةٌ عَمياءُ

غير أن شاعرنا يعود فيعتمد في النيل من خصومه أسلوبَ التعالي الصريح إلى حدّ المبالغة المجاوزة الخيالَ، فذات المقلة العمياء التي التمس لها العذر في ألّا تراه قد باتت تبصر أدبه وتقرّ بفضله:

أنَا الذي نَظَـرَ الأعْمَـى إلى أدَبـي ** وَأسْمَعَتْ كَلِماتـي مَنْ بـهِ صَمَـمُ

تنوّعت إذن سياسات/استراتيجيات شاعرنا في الدفاع عن نفسه؛ وكثيراً ما كان دفاعه ذاك على هيئة مبادراتٍ بالهجوم وتحرّشاتٍ استباقية بقرّاء مستكينين لا نيّة لهم لمناوشة الشاعر العظيم من قريب أو بعيد.

بالنظر إلى سجيّة المتنبي المتبدّية بوضوح في شعره، ليس من العسير إدراك أن التراجع عن الخطأ أو الاعتراف به لا يرِد أيٌّ منهما في قاموسه النفسي؛ فالعكس تماماً هو ما ظلّ مستقرّاً في نفسيات شاعرنا العميقة: الإصرار على الخطأ؛ وكان ذلك الإصرار من أبرز أدوات المتنبي ليس في بلوغ النجاح فحسب وإنما في تسنّم ذروة الشعر من حيث التأثير في الجماهير العربية على مرّ الزمان. 

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])