الشعراء الذين دعوا في أشعارهم إلى عقائد أو مبادئ أو أفكار من أي قبيل كثيرون، وبموازاة أولئك ثمة شعراء آخرون عَرفت الدعوة إلى المُثل ومكارم الأخلاق الطريقَ إلى قصائدهم عموماً بمستويات متباينة دون أن يتّخذوا تلك الدعوة منطلقاً رئيساً لإبداعهم الشعري.
أين المتنبي من كل أولئك؟ رأينا في حديثنا المستقل عن "استغلال السلطة الأدبية" أن شاعرنا ظلّ "سلطة أدبية تفرض رأيها اللغوي ولا تنتظر إجازة الآخرين من العامة أو الخاصة لما يصدر عنها من إبداع"، وذلك برغم كل ما أخذ عليه من معايب كتلك التي وردت في "يتيمة الدهر" من قبل الثعالبي، ورغم أضعاف تلك المعايب كمّاً ونوعاً ممّا كاله له أعداؤه خالصو العداوة. ورأينا كذلك أن شاعرنا قد نال تلك السلطة الأدبية من جهتين رئيستين: الأولى براعته الشعرية منقطعة النظير، والثانية شخصيته المصادمة وتشبّثه برأيه في الحق وفي الباطل.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: فضيلة الإصرار على الخطأ
الأهم فيما يميّز سلطة المتنبي الأدبية أنها "سلطة ذاتية"، وأرجو أن يجوز التعبير؛ فهو عَبْرها يبرّر لنفسه ما يشاء من غريب إبداعه وفرائده فيُخرص ألسنة خصومه إن لم يكن قناعةً بشعره وإجلالاً له فمهابةً لمكانته وتحاشياً لعواقب التجرّؤ عليه؛ وقد نجح شاعرنا في ذلك ولم ينجح فيه في الوقت نفسه. نجح لأن ما فعله عمّق مكانته في قلوب معجبيه وأسكت بعض خصومه في غير قليل من الأحيان؛ لكن أولئك الخصوم لم يكونوا جميعاً في سهولة من تسنّى له إسكاتهم من العامة أو الخاصة في بعض المجالس والمواقف؛ وإن يكن الأدعى إلى الانتباه في هذا المقام أن الأشدّ تأثيراً ممّن لم تنطلِ عليهم سلطة المتنبي الأدبية كانوا أولئك الذين انبروا له بقدر واضح من الحياد فأبانوا معايبه ومحاسنه أو وازنوا بينه وبين غيره من الشعراء أو توسّطوا بينه وبين خصومه أو اتّخذوا غير ذلك من المسمّيات والمداخل لدراسة الشاعر العظيم بعيداً عن منطلقَي الإعجاب الصارخ والخصومة الطائشة.
سلطة المتنبي الأدبية إذن ذاتية التأثير من حيث إجازة ما هو على شاكلة وحشيّ ألفاظه وغريب معانيه في شعره، لكن شاعرنا العظيم لا يُعدّ بطبيعة الحال حجّة لغوية، لا هو ولا أيٌّ من معاصريه العباسيين، حتى إن جريراً والفرزدق والأخطل يسبقونهم في مسألة الاحتجاج الشعري بدرجة، في حين يسبق الشعراءُ المخضرمون والجاهليون كلَّ أولئك بحيث يعتلون الذروة في مقام الاستشهاد اللغوي الشعري. غير أنه بتجاوز قضية الاحتجاج اللغوي تحديداً، وبالنظر إلى القيمة الفنية الأدبية بصفة عامة، تعود سلطة المتنبي فيمتدّ تأثيرها على الجميع بما يجاوز أشعار الجاهليين والمخضرمين وقصائد صدر الإسلام ذات المرجعية اللغوية الموثّقة "رسمياً" في مصلحة "الشهر/التسجيل الأدبي العربي".
ذاك عن سلطة المتنبي الأدبية بشقّيها "الذاتي" و"المتعدّي الشامل"، وذلك من خلال التحديق في إطار الاحتجاج/الاستشهاد اللغوي بالنسبة للشق الأول وعبر التحليق في فضاء القيمة الأدبية/الفنية الخالصة فيما يتعلق بالشق الثاني؛ فماذا عن سلطته الأخلاقية؟
يبدو أن الحال لا يختلف كثيراً، فشاعرنا الفريد هذا سلك نفس النهج في اعتماد مرجعيّته الأخلاقية، فقد سنّ سننه الخاصة/الذاتية إمّا دفاعاً شرساً عن توجّهاته الفكرية التي صدح بها في شعره وإمّا تعالياً بتجاهل كل ردّة فعل يمكن أن يواجَه بها؛ ولعل الاستثناء الوحيد على هذا الصعيد تجلّى في دفاعه عن نفسه فيما يخصّ قصّة ادّعائه النبوّة، فالأخبار الواردة في هذا الشأن تفيد إنكاره التهمة جملةً دون الخوض في تفاصيلها إلّا بقدر ما يطلب السائل/المستجوِب.
على صعيد الشعراء المحرِّضين أخلاقياً، قال بشّار بن برد على سبيل المثال، وما قاله كثير وخطير في هذا الباب:
إِبليسُ خَيرٌ مِن أَبيكُم آدَمٍ ** فَتَنَبَّهوا يا مَعشَرَ الفُجّارِ
إِبليسُ مِن نارٍ وَآدَمُ طينَةٌ ** وَالأَرضُ لا تَسمو سُمُوَّ النارِ
وعلى سبيل المثال أيضاً قال أبو نواس، وما قاله لا يقلّ خطورة أحياناً عمّا قاله سلفه بشّار:
دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ ** وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ
وطالب بالجهر في فعلته:
ألا فاسقِني خمراً وقل لي هيَ الخمرُ ** ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ
وبالقفز أكثر من ألف عام، نقرأ لأحمد شوقي:
رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي ** مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ
هاتِ اِسقِنيها غَيرَ ذاتِ عَواقِبٍ ** حَتّى نُراعَ لِصَيحَةِ الصَفّاقِ
قبل أبي نواس وبشار، وبعدهما إلى زمان أمير شعرائنا، وبعد أحمد شوقي إلى يومنا هذا، صدح الشعراء ولا يزالون بألوان التحريض والدعوة إلى ما يهوون من النزعات والمذاهب؛ وقد تباينت تلك النزعات والمذاهب يميناً ويساراً، ولم ننتقِ على سبيل المثال العابر جداً تلك النماذج الثلاثة سوى للمقارنة العابرة بدورها بشاعرنا أبي الطيب وشأنه مع سلطته – لا سيرته – الأخلاقية. وإذا كان شوقي حالة خاصة مع دعوته إلى المجون، كون دلائل تديّنه كثيرة وعميقة في شعره، فإن بشاراً وأبا نواس من أبرز دعاة المجون والزندقة في الشعر العربي، وذلك دون إغفال ما أضيف إلى ذلك التراث ممّا بات أكثر جدّية ومنهجيّة في عصرنا هذا في غير إطار الشعر الكلاسيكي شكلاً.
المهم على صعيدنا هذا أن أولئك الشعراء، من أمثال بشار وأبي نواس، لم يتورّعوا عن الدعوة الصريحة إلى نزعاتهم ومذاهبهم وإنْ في قوالب ساخرة، ودون إغفال أن بشّاراً قد دفع حياته – في واحدة من أبشع صور القتل بحسب الرواية الرائجة – ثمناً لتلك الدعوة.
وعند المقارنة بأبي الطيب، ومجدداً بتجاوز قصة ادّعائه النبوّة (التي تراجع عنها، أو أنكرها على الجملة)، فإن المتنبي لم يكن مهتمّاً بدعوة أحد إلى أي مذهب أخلاقي أو نزعة سلوكية، وإن يكن كما أشرنا لا يتوانى في أن يشرح بنزعاته الأخلاقية صدراً في شعره، وهو في كل الأحوال – لغوياً وأخلاقياً – أشرس المدافعين عن آرائه، لا بهدف دعوة الناس إليها وإنما على سبيل الإصرار على مواقفه مهما يكن الآخرون يرونها أخطاء فادحة؛ ذلك الإصرار الذي كان "فضيلتَه" التي بلغ بها ما بلغ من المكانة الأدبية ذات التأثير الإنساني منقطع المثال في الوجدان العربي.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])