عمرو منير دهب: أمراض المتنبي النفسية

إذا كان من المهم ابتداءً الإشارة إلى أن الإصابة بأيٍّ من الأمراض النفسية ليست مذمّة بحال من الأحوال، فإن ما لا يقلّ أهمية الانتباه إلى أن أحداً منّا لا ينجو بالفطرة من ميل عن السواء النفسي بدرجة أو أخرى في هذه الناحية أو تلك. والسواء النفسي ليس سوى مرجعيّة مثالية لا وجود متحققاً لها عند أيٍّ من الناس، فهو مثل الكمال الخُلُقي؛ ولكنه مرجعيّة لا بدّ منها لحساب الانحرافات النفسية بدرجاتها المختلفة و"ترسيم" الحدود التي يُحسب المرض النفسي بعد تجاوزها. كذلك، فإن المسألة ليست مرضاً نفسياً مقابل "لامرض"، فثمة في كلٍّ منّا أعراض/مظاهر/نزعات تشي بانحرافات متباينة قدراً ونوعاً عن السائد، يفلح البعض في كتمانها تماماً أو إلى حدّ بعيد، وتفلت من البعض بقدرٍ ما ولكن ليس إلى درجة أن تعيقه عن التفاعل الاجتماعي والعملي تفاعلاً مقبولاً وفق ما تواضع عليه المجتمع أو محيط العمل، ومن ثمّ تنطلق التصنيفات في الحكم على الآخرين بالصحة أو المرض النفسي؛ وإذا كانت تلك القضية حمّالة أوجه على الصعيد العلمي فإنها مرتع خصب للحكايات والنوادر بل والخرافات على الصُّعد الاجتماعية والشعبية.

نرشح لك: عمرو منير دهب: المتنبي بين سلطته الأدبية وسلطته الأخلاقية

هذا عن كلٍّ منّا مهما يكن موقعه من السلّمين الاجتماعي والعملي في أي زمان ومكان، أمّا العظماء المؤثّرون فالأرجح أنهم أشدّ عرضة لأن يكونوا مصابين بالأمراض/الانحرافات النفسية، أو على الأقل هم في دوائر الأضواء التي تتيح للناس النظر إلى أفعالهم وردّاتها والخفّة إلى تقييمها على غير الحال مع غيرهم. ولكن بالنسبة للعظماء من المبدعين المؤثرين في الفنون والآداب، فإن الانحراف عن السواء النفسي ليس مشهوراً عنهم فحسب وإنما هو في الغالب مّما ينزل منازل التبجيل كونه لدى العامة دليل العبقرية وأداتها التي لا مناص منها للتحليق في عوالم الإبداع الأدبي والفنّي.

شاعرنا العظيم هذا مجالٌ إنساني خصب للنظر فيما يمكن أن يكون قد حوّط مبدعاً من صور الأمراض/الانحرافات النفسية، وأشهر ما يمكن أن يُرمى به من "التُّهَم" النفسية هو جنون العظمة Megalomania في معناه العريض الذي يمكن إجماله في الشغف إلى حدّ الهوس بالسلطة والثروة وتخيّل تحقيق إنجازات استثنائية عظيمة؛ وبالإحالة إلى مزيد من التدقيق العلمي تصبح "التهمة" النفسية هي اضطراب الشخصية النرجسية Narcissistic Personality Disorder (NPD) الذي يسعفنا بمزيد من الأعراض التي يمكن التماسها في شاعرنا الاستثنائي كتدنّي الميل إلى التعاطف مع الآخرين. وكشأن الانحرافات/الأمراض النفسية بصفة عامة، فإن اضطراب الشخصية النرجسية يرتبط باضطراب في التفاعل النفسي الاجتماعي، وهذا ممّا يتّصف به المتنبي لا ريب، لكنه – شأن جميع الشخصيات الاستثنائية المتهمة بجنون العظمة – عرف كيف يحيل تجلّيات هذا الاضطراب في التفاعل النفسي الاجتماعي لصالحه بحيث يُنزل الآخرين على شروطه في التعامل معه تحت أضواء عظمته التي أفلح في جعلها تنطلي على من حوله بشكل أو آخر؛ ولعل من أمثلة نزول الآخرين على شروطه الغريبة قبول سيف الدولة بشرطه في أن ينشده قاعداً على غير العادة مع غيره من الشعراء؛ مع إثبات تحفّظنا في قراءة وتصديق كل ما راج من أخبار الشاعر العظيم، فسيرته الاستثنائية تغري بإلصاق كل غريب وفريد بصاحبها.

الغوص في المزيد من تفاصيل التحليل النفسي يفضي بنا إلى جملة من آليات الدفاع (النفسي) Defense Mechanisms التي كان المتنبي بارعاً بالفطرة في استخدامها من قبيل: الإسقاط، عقدة الاستعلاء، التفكير الرغبوي (التمنّي)، الإزاحة، التبرير، المقارنة (الاجتماعية)، التماهي (التوحد)، الاستدماج، التعويض، العدوان (الوجداني)، أحلام اليقظة، النسيان، التعميم. هذا، ويمكن الرجوع إلى المصادر ذات الصلة للوقوف على تفاصيل تلك الحيل/الآليات الدفاعية التي أوردتُ بعضها اختصاراً عن ويكيبيديا (نسختيها العربية والإنجليزية). ولا يجب أن يجزع عشّاق شاعرنا العظيم لرميه بكل تلك "التهم" النفسية، فإلى جانب أن المسألة جدالية يجب أن نتذكّر ما أشرنا إليه من أن الانحرافات النفسية سمة لا تقدح في عظمة إنجاز المبدعين الاستثنائيين إن لم تكن مما يلتصق بهم بالضرورة علامةً على التميّز في كثير من الأحيان؛ ذلك بموازاة ما أشرنا إليه أيضاً من أن أيّاً منّا لا يسلم من انحراف عن السواء النفسي بدرجة أو أخرى، والأهم أن ذلك ليس عيباً أخلاقياً في كل الأحوال.

لنأخذ ملمحاً واحداً ذا خصوصية نفسية من ملامح شاعرنا الكبير، وهو على كل حال ليس من أشهر ما عُرف عنه ولا من أبرز ما يمكن الوقوف عليه من ملامحه النفسية الفريدة.

أسرف المتنبي في التشدّق بعفّته تجاه النساء، حتى إنه بدا كما لو كان يمنّ بتلك العفّة على قرّائه؛ فهل كان شاعرنا العظيم بالفعل عفيفاً أم متكلّفاً التعفّف؟ الأهم، هل كان يعفّ عن قدرة أم عن زهد لهذا السبب أو ذاك؟ وغير خافٍ أنه لم يكن يتشدّق بالعفة مجرّدة وإنما مقرونةً في الغالب بالإشارة تصريحاً أو تلميحاً إلى كونها عفّة نابعة عن قدرة لا مراء فيها، إذ قال على سبيل المثال:

يَرُدُّ يَداً عَن ثَوبِها وَهوَ قادِرٌ ** وَيَعصي الهَوى في طَيفِها وَهوَ راقِدُ

وقال:

وَتَرى الفُتُوَّةَ وَالمُرُوَّةَ وَالأُبُو ** وَةَ فِيَّ كُلُّ مَليحَةٍ ضَرّاتِها

هُنَّ الثَلاثُ المانِعاتي لَذَّتي ** في خَلوَتي لا الخَوفُ مِن تَبِعاتِها

وفي السياق ذاته:

وَما كُلُّ مَن يَهوى يَعِفُّ إِذا خَلا ** عَفافي وَيُرضي الحِبَّ وَالخَيلُ تَلتَقي

وقد بلغ في تكلّف إظهار العفّة ما يليق بالعذراوات الحييّات:

وَأَشنَبَ مَعسولِ الثَنِيّاتِ واضِحٍ ** سَتَرتُ فَمي عَنهُ فَقَبَّلَ مَفرِقي

ولعل من أصدق أبياته في هذا المقام قوله:

إذا كنت تخشى العار في كل خلوةٍ ** فلم تتصباك الحسانُ الخرائدُ

فهو وإن كان يلوم نفسه على صبوته إلى الحسان يقرّ بأن سبب محاولاته البعد عن النساء خوفه من العار لا عفّته الخالصة، وإنْ لم يكن قد ذكر النفي الأخير صراحة بطبيعة الحال.

لنعد إلى ادّعاءات شاعرنا العظيم فننظر إليها في ضوء بيتيه الشهيرين التاليين:

كَم زَورَةٍ لَكَ في الأَعرابِ خافِيَةٍ ** أَدهى وَقَد رَقَدوا مِن زَورَةِ الذيبِ

أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي ** وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي

ولنتساءل: ما دلالة "الذيب" في البيت الأول؟ وماذا كان يصنع شاعرنا العفيف من سواد الليل حتى بياض الصبح؟

على أن البديع الفرد من البراهين التي ساقها دلالة على عفته مع النساء بيتُه الذي كاد به أن يقول خذوني:

إِنّي عَلى شَغَفي بِما في خُمرِها ** لَأَعِفُّ عَمّا في سَراويلاتِها

ولن تسعف في ترقيع الخرق البلاغي العظيم (دع عنك ادّعاء العفة الذي نحن بصدده) محاولاتٌ من قبيل إحلال "سرابيلاتها" محل "سراويلاتها"؛ وأجمل ما قيل تعليقاً على هذا البيت – من الناحيتين البلاغية والأخلاقية – ما جاء في شرح الواحدي للديوان من أن الصاحب بن عبّاد قال: "كانت الشعراء تصف المآزر تنزيهاً لألفاظها عما يستشنع ذكره حتى تخطّى هذا الشاعر المطبوع إلى التصريح، وكثيرٌ من العهر أحسن من هذا العفاف".

غير أن الدليل الدامغ على إدانة شاعرنا العظيم يبدو ماثلاً في قوله:

وَقَد طَرَقتُ فَتاةَ الحَيِّ مُرتَدِياً ** بِصاحِبٍ غَيرِ عِزهاةٍ وَلا غَزِلِ

فَباتَ بَينَ تَراقينا نُدَفِّعُهُ ** وَلَيسَ يَعلَمُ بِالشَكوى وَلا القُبَلِ

ثُمَّ اِغتَدى وَبِهِ مِن رَدعِها أَثَرٌ ** عَلى ذُؤابَتِهِ وَالجَفنِ وَالخِلَلِ

وإن يكن الدليل الذي يتجاوز كل ما سبق في إدانة شاعرنا الكبير يتجلّى مع قبح لسانه في هجائيّاته المقذعة بما تخطّى أشهر هجائيّات جرير والفرزدق وكثيراً من فحش بشار وأبي نواس وغيرهم من أصحاب اللسان السليط؛ والعفة يصعب أن تتجزّأ بحيث يغدو أحدهم طاهراً في فعله بذيئاً في قوله، وإن يكن العكس وارداً بحيث يكون بعضهم فاحشاً في فعله عفيفاً في قوله.

مهما يكن، فإن المتنبي استثناء أدبي على الصعيد العربي، لا ينال من ذلك الاستثناء قدحٌ في عفّته ولا يزيده رسوخاً إثباتٌ لتلك العفة؛ تماماً كما إنه استثناءٌ في تأثيره ذي البعد الإنساني الفريد على ذات الصعيد، لا تطعن في ذلك الاستثناء "تهمةٌ" باضطراب نفسي من أي قبيل ولا ترفع من شأنه شهادةُ خلوٍّ من الأمراض النفسية يمهرها نطاسيٌ متخصص أو لجنة طبية رفيعة المقام.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])