فيصل الأطرش: لو لم يكن فريد الأطرش مطربا... لكان شهيدا!

ابتسام كامل

ولد وعاش في بيت الموسيقار الأشهر في الوطن العربي... فريد الأطرش. العم الحنون الذي ساهم في تربيته باعتباره الابن الذي لم ينجبه. فكيف يمكن تخيل شعور فريد الأطرش؟ حينما دب صوت ابن أخيه الصغير في بيته الذي لا يسكنه إلا الفن والموسيقى والطرب! دونما يخلو يوما من الضيوف والأصدقاء والفنانين. بين المرض والصحة والحفلات والأفلام والسفر والسهر! ثم ولد فيصل، فتجددت حياة فريد، وامتلأ قلبه أملا وتفاؤلا وتطلعا.. قبل الرحيل!

وو

كيف مرت الخمسون سنة الماضية في حياة فيصل الأطرش؟ ابن فؤاد الشقيق الأكبر للموسيقار الخالد، من أمه الأميرة وﭽيهة ابنة عم فريد وفؤاد! وما الذكريات التي يحملها من طفولته عن عمه؟ وما التفاصيل التي رواها له والداه والأصدقاءه؟ ثم كيف يتعامل مع تراث فريد الفني ليومنا هذا؟ وما هي ردوده عما يتردد عن تبديده لهذا التراث؟

يحمل الأمير فيصل - وهذا لقبه الرسمي- بعض ملامح وجه عمه، مثلما يحمل الكثير من صفاته كالكاريزما، والكرم، والأصالة، والتواضع، والذوق الرفيع، والقدرة على الحكي! والأهم أنه الوريث الوحيد الذي يقع على عاتقه مهمة الحفاظ على تراث فريد الأطرش ... الذي لا يزال جمهوره يبحث عن الجديد والطريف فيه!

بين شقة النيل و المعادي

يمتلئ كل ركن في منزله بالمعادي بتفاصيل أثاث ومقتنيات منزل فريد الذي كان يطل على النيل بالجيزة، والذي حرصتُ على التقاط الصور التذكارية لبعض تفاصيله، في زيارتي الأولى له منذ سنوات، قبلما ينتقل فيصل إلى المعادي!

- سألته لماذا باع منزل فريد بشارع النيل؟

فأجابني سريعا: هذا البيت اتهمت بسببه أسوأ الاتهامات! وقالوا أني بعته بخمسين مليون جنيه، أي مليون دولار في النهاية! فانا لم أبعه، ولا أنتظر المال الذي يأتي من بيع منزل فريد الأطرش، الذي هو أغلى بكثير من أي مبلغ يأتيني! كل الأمر أنه كان إيجارا واسترده صاحبه! ولهذا، أنا لا أرد على كل ما يكتب أو يقال... لأن هذا كلام لا يرد عليه!

- مهما كانت أسباب خسارة شقة فريد، ولكن هل سعيتَ لحث الدولة على تحويلها إلى متحف يحفظ مقتنياته وأثاثه بقيمته التاريخية؟ مثلما فعلت النمسا مع الموسيقار موتسارت!

‏o بالطبع حاولتُ، فشقة فريد هي المكان الذي يحمل رائحته بأثاثه وذكرياته! لكن قيل وقتها أن الأمر قد يضايق الجمهور نظرا لأن الشقة في عمارة سكنية، وفي الدور العاشر مما قد يزعج الجيران والجمهور، رغم وجود الأسانسير! على أي حال را ح البيت الذي اتُهمت أنني بعته وأنا لم أبعه بالتأكيد! مع العلم بأنني أحتفظ بكل عفش فريد من الأثاث الضخم جدا من شقة النيل في شقة إيجار بمنطقة رشدي بالأسكندرية، هي أقرب لكونها مخزن، أما باقي العفش فقد حملته ورفعت ما يمكن رفعه حتى البلاط والسجاد الأصفهاني والبيانو وكل شيء! مستطردا: ولكن نصيحة مني... لا تقارني بين القائمين على تكريم موتسارت وفريد!

ذكريات الطفولة

- هل تتذكر بعض ذكريات الطفولة مع فريد الأطرش عمك؟

‏o أتذكر بعضا منها... وخاصة عندما كان عمي فريد ينصح أبي ألا يلبي جميع طلباتي؛ لقناعته بأن الحرمان ألم، والألم مدرسة الحياة. وذلك لأن أبي ولدني وهو في سن الستين، فكان عمي يخشى أن أكون طفلا مدللا. كما أخبرتني أسرتي أنني منذ ولدت؛ قطع عمي فريد اللعب بجميع أنواع الكوتشينة في البيت. أما أنا شخصيا، فأتذكر كيف كان يحاول تصحيح نطقي لبعض الحروف مثل القاف والكاف والجيم ... الذين كنت أنطقهم بشكل طفولي، بينما كان هو يحلم أن أكون قائدا ساسيا، فكيف لخطيب سياسي أن ينطق الحروف هكذا؟ فكان يقضي معي وقتا طويلا لتعليمي النطق الصحيح، مثلما أتذكر يوم أتى بي بين أصدقائه، وأخرج لي عشرة جنيهات ليشجعني على النطق الصحيح. فخطفتُ العشرة جنيهات من يده، دون تحقيق رغبته! والطريف، أنني نطقت الحروف بشكل صحيح بعد وفاته، ربما كان هذا تعبيرا عقويا عن حزني عليه.. ورغبة في إرضائه!

‏o مثلما أتذكر أن عمي كان يعطي بدون حساب، لمن كان يطلب منه شيئا أو يشعر هو أنه في احتياج لشيء! حتى لو كان العود الذي يعزف عليه، بل وحتى أحذيته وملابسه! ففي أحد الأيام وكان على موعد مهم، فوجئ بعدم وجود  أية أحذية لديه، بعدما قام بتوزيعها جميعا! مما اضطره لاستعارة زوج أحذية من أحد العاملين في البيت . مثلما أتذكر قيامه بخلع الـﭼاكت الذي كان يرتديه في ليلة باردة لأحد الأشخاص ... حينما شعر أنه في حاجة إليه! ثم طلب من السائق أن يذهب البيت لإحضار ﭼاكت آخر له! ومن القصص التي تتردد عنه أنه أثناء الغداء بأحد الأيام ، فوجيء ببعض الخضروات التي لم تغسل جيدا، فلم يرغب في إحراج الطباخ أو والسفرجي، فقال: "ناكل الدود قبل ما ياكلنا"!

على خطى عمه فريد الذي كان يرتدي سلسلة ذهبية تحمل المصحف والصليب، يرتدي فيصل في رقبته سلسلة ذهبية تحمل آية الكرسي، واسم الله، وأيقونة مريم العذراء، والصليب، وصورة والدته، وعين حورس، وشعار الخمسة حدود، وشعار عائلة الأطرش متضمنا آية إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وما معناه ابن تسعة مش ابن عشرة، والدين لله والوطن للجميع، والشجاعة والكرم، والعفو عند المقدرة..

الاحتفال بذكرى فريد

- خرجت بعض الأصوات تطالب الأمير تركي الشيخ بإعداد احتفالية تناسب ذكرى رحيل فريد الخمسين! فكيف أعددتَ أنت للاحتفال بهذه المناسبة ؟

‏o الدول هي التي تحتفل بذكرى رموزها! وفريد الأطرش الذي تربى في مصر وعاش مصريا، وساهم في تجديد الأغنية والسينما المصرية.. كان لا ينقطع عن ترديد مقولة "خير اكتافه من مصر ". وهي حقيقة أعيشها شخصيا وأرددها معه. لذلك قلت أن الاحتفال بهذه المناسبة الكبرى واجب الدولة، أما احتفال العائلة فيبقى محدودا بالعائلة! يكفيني حب الناس لفريد، واحتفالهم الذي لا ينقطع، وليس فقط في الذكرى الأربعين أو الخمسين! مستطردا: "وبعدين، الله يكون في عون الدولة... عندها الكثير من الهموم والمشاكل! خليهم يحلوا مشاكلهم وبعدين.. يكرموا اللي يكرموه"! على أي حال، لا أحد يستطيع إلجام أمنيات الناس، فجميعها تصب في حال إثراء الذكرى.

- هل أعجبك التمثال الذي وضعته الأوپرا المصرية للموسيقار فريد الأطرش بأحد أطرافها؟

‏o هذا التمثال نحته الفنان محمد ثابت، من مادة البوليستر – كما قيل لي- وهى مادة لا تعيش طويلاً مع تغير الطقس، وصُنع بجهود ذاتية بمعرفة الأستاذ عادل السيد - رئيس جمعية أصدقاء فريد الأطرش بمصر- الذي جمع الأموال اللازمة من محبي فريد لنحت هذا التمثال ليضعه بجوار تماثيل عبد الوهاب وعبد الحليم وأم كلثوم وفاتن حمامة.. التي تكفلت بها الأوﭘرا!

‏o مبادرا بسؤالي: هل شاهدتِ حال التمثال؟ أجبته بالنفي، ثم بحثت فيما كتُب عنه... وفوجئت بالإهمال الذي أصابه! مقارنة بتمثال فريد الذي نحته الفنان عساف عساف اللبناني، وصنعه من حجر الرخام الإيطالي تقدمةً من بلدية عاليه، والموجود حاليا بمتحف الإخوة عساف في البُصَّيل، الورهانيه، الشوف –لبنان! ثم أخبرته بأن وزارة الثقافة قامت بإصلاح العيوب التي تعرض لها تمثال فريد بمصر، أخيرا! 

- يرى البعض أن جمهور فريد حساس جدا، وعاطفي، وربما لدي أفراده الإحساس بالمظلومية، فيسقطون مشاعرهم على فريد، الذي يحبونه لإنه عانى الفقر والمرض والظلم كإنسان.. وكان فنه تعبيرا عن تلك المشاعر، فما رأيك؟

‏o جمهور فريد طيب وعاطفي ومتعصب بشكل عام... ولفريد بشكل خاص! لا يقبلون أي نقد ضده، ولا يرتضون مقارنته بأي فنان مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وخاصة عبد الحليم حافظ! أسأله عن رأيه الشخصي، فيقول: أم كلثوم هي أم كلثوم، أما عبد الحليم وفريد، فلا يجوز مقارنة مطرب بموسيقار! إنما المقارنة تكون بين فريد وعبد الوهاب، والسنباطي ا(لذي هو أستاذ فريد في العود)، ورياض القصبحي، وزكريا أحمد، ومحمد فوزي، ومنير مراد. وبشكل عام، المقارنات الفنية أمر غير لائق، فكل إنسان حر فيمن يحب من أصوات، لأن مسألة الإعجاب بصوت فلان تعتمد على الذوق والإحساس والخبرات الشعورية. فلا يجوز المقارنة بين صوت أم كلثوم وأسمهان، ولا حليم بفريد، خاصة وأن نجاح الغناء في النهاية هو خلاصة ثالوث الملحن والمؤلف والمطرب، وليس الصوت فقط!  

- ولايزال الناس يتحدثون عنه بتقديس وحب عجيب كأنه حي..

‏o هو حي في قلوب جمهوره، الذين لايزالون يطلقون نفس الصحيات التي سمعناهم يرددونها وهو بيننا، مثل الجملة الشهيرة التي قالها أحدهم "هل فريد وهل الربيع". و الشعر الذي كتبه أحد المعجبين، قائلا "غنى الفريد فأحكم الأوزانا، والعود فاض عواطفا وحنانا، وكأنّا بأرض مكة سُجدا، وكأن وحي إلهي أتانا". فهؤلاء محبو فريد بخصوصيته الذين يبهرونني كلما استمعت إلى نقدهم وتحليلهم لأعماله المتميزة، ولكن ليس كرسول ولا نبي ولا شيء من هذا القبيل. فهو مدرسة خاصة جدا تفوق فيها على بعض الناس الذين حصلوا على حجم أكبر من حجمهم، وكان فريد بالنسبة لهم أساس، وتأثروا بألحانه، حتى قالها بليغ حمدي "كاذب من يدعي أنه لم يتأثر بموسيقى فريد الأطرش"! ففريد مدرسة موسيقية، وكذلك عبد الوهاب، والسنباطي.. وكل مجموعة فنية بحسب التصنيف الزمني ممن تأثروا وأثْروا الموسيقى بعد ذلك من الملحنين الجدد .. وعلى رأسهم بليغ ثم بليغ ثم بليغ.

حليم وفريد وعبد الناصر

- ولماذا في رأيك تعاطف الإعلاميون والنقاد مع عبد الحليم أكثر من فريد الأطرش؟ رغم تشابه ظروفهما الصحية وأصالتهما الفنية!

‏o ابحثي عن المصالح! غير هذا، يتشابه الفنانان، فعبد الحليم ذاق الفقر أيضا، واليتم، وويل البلهارسيا،. ولكن - كما ذكرتْ- لا يجوز المقارنة الفنية بين مطرب وموسيقار، ولنرجع للتاريخ، فعبد الناصر منح وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى لفريد تقديرا لصفاته الحميدة وجليل خدماته للموسيقى، ولم يمنحه لعبد الحليم. مثلما حضر افتتاح فيلم عهد الهوى تنفيذا لطلب فريد حينما كان مريضا! وأمر أن تذاع حفلة الربيع لفريد على الهواء، وتذاع حفلة عبد الحليم المسجلة باليوم التالي. وهناك قصة سمعتها عن صلاح الشاهد كبير أمناء رئاسة لجمهورية يقول فيها أن عبد الناصر قابل حليم أثناء حفل زفاف ابنة عبد اللطيف البغدادي، فسأله: مزعل الأستاذ فريد ليه يا عبد الحليم؟ فعبد الحليم قال: أصل فريد  .. فما كان من عبد الناصر إلا أن سحب يده وقال: اسمه الأستاذ فريد! فهذا يخبرنا من هو فريد الأطرش.

- وكان السادات أيضا محبا لفريد الأطرش. ويرى البعض أن سر إعجاب الرئيسين به يعود لطيبته ووطنيته وإخلاصه وأدبه وحسن نواياه!

‏o هذه أقوال تخلو من الحق والمنطق! فهل يمكن تصور أن رئيس دولة يحب سماع فنان لمجرد أنه مؤدب؟ ثم ما علاقة التطريب والذوق الفني بالوطنية والإخلاص؟ فمن باب أولى كان عبد الناصر منح وسام الاستحقاق لعبد الحليم لكونه مطرب الثورة بامتياز!  

- ولد فريد عام 1917 وحليم ولد عام 1928.. فهل عشرة سنوات تقريبا بينهما تجعل بينهما صراعا؟كما تجعل الأجيال التالية لهما أقرب لعبد الحليم؟ كما يشاع!

‏o رأيي أن البعض كان يستفيد من إشعال الحرب بينهما. وكان فريد يضع آلامه ومشاعره في فنه! أما كون عبد الحليم شارك عبد الوهاب ووحيد فريد في تأسيس شركة صوت الفن،  فهذا يعني أنه كان شريكا في الإنتاج ومتواجدا دائما برغم رحيله في عام 1977 الذي توافق مع ظهور الكاسيت. ومن خلال التسويق الجيد بالشركة وإقناع المطربين الجدد بالغناء لعبد الحليم، ظل عبد الحليم حيا وموجودا طوال الثمانينات وما بعدها.. وهكذا تم التسويق لعبد الحليم، بينما لم يسوق أحد لفريد!

‏o نفس الأمرينطبق على أم كلثوم! فلولا الأستاذة صابرين والأستاذة المخرجة أنعام محمد علي، وكاتب القصة الأستاذ محفوظ عبد الرحمن.. لما عادت أم كلثوم للحياة لدي أبناء الأجيال الجديدة، الذين كانوا يسمعون محمد نوح وفرقة المصريين ، ولكانت توارت الأعمال الثقيلة لفريد وأم كلثوم وعبد الوهاب.

استفزاز صراحته..

- ومن المسؤول في ظنك عن تحويل المنافسة بين عبد الوهاب وفريد إلى عبد الحليم وفريد؟

‏o أعتقد إن ذكاء عبد الوهاب الفني، واعتزازه بذاته جعله يضع كل آماله وأحلامه في صوت عبد الحليم الذي كان مختلفا تماما عنه وعن فريد! وبابتعاد عبد الوهاب عن الغناء، انتقلت المنافسة لتصبح بين عبدالحليم وفريد.. من خلال بعض النقاد غير المتخصصين موسيقيا من شلة عبد الوهاب، الذين أشعلوا الدنيا بالمقارنات بين حليم وفريد، رغم علمهم أن فريد مطرب وموسيقار، ولا يمكن مقارنته إلا بمن يشبهه فنيا! ولكنهم كانوا يفعلون ذلك إرضاء لعبد الوهاب، واستفزازا لفريد بصراحته المعروفة، انتظارا لتصريحاته ليصنعوا منها الأخبار.. 

مقلب محمد فوزي

- دائما ما نتحدث عن فريد وعبد الوهاب، فريد وعبد الحليم.. فماذا عن فريد ومحمد فوزي؟

‏o في البداية، كان بينهما غصة ما، حينما قال فريد رأيا يفيد الاستهانة بمحمد فوزي! وهنا، لو اعترفنا بوجود غيرة فنيه بينهما تكون مقبولة فكلاهما ملحن ومطرب وممثل. فماذا كان رد فعل فوزي؟ يسبه؟ يشهر ضده في الجرائد؟ يقاضيه؟ ولا شيء من هذا! كل ما فعله أنه أنتج فيلم "كل دقة في قلبي" بطولته مع سامية جمال، ولسوء الحظ وقتها، أن فوزي طلق مديحة يسري، وسامية وفريد بينهما مشاكل! في نفس الوقت كانت مديحة صديقة صدوقة لفريد، مما أشعل الغيرة في قلب فوزي، فاتفق مع سامية على أن يسب فريد و يسخر منه بالفن، فمثل وغنى ربما أجمل ألحانه بهذا الفيلم... الذي تبدأ أولى لقطاته بقفا ممثل (اسمه أحمد فؤاد أعتقد) يمثل أنه خطيب سامية المطرب، الذي يقف بنفس طريقة فريد، بشعره وبدلته وقفاه، وموسيقى الأغنية من نفس مقامات فريد، حتى يلتفت للكاميرا وهنا يكتشف الجمهور القصة، وإن كل دور هذا الممثل في الفيلم أن "يتبهدل" على أنه فريد الأطرش! هكذا نقل فوزي لفريد رسالة معناها: "انت بتهزأني؟ طب خد بأه... طب هاجيبلك لحن بتاعك انت بقفاك انت بشكلك انت .. وأرد عليك من غير ما اقول لك ولا كلمة"!

‏o يستطرد فيصل: وكان فريد الأطرش في افتتاح الفيلم، والتقط الرسالة المقصودة، ولكن كل ما فعله أنه هز رأسه بابتسامة خفيفة! ومن هنا نشأت الصداقة والمحبة الحقيقية بين فريد وفوزي الذي مات في حضني أنا وأمي في لندن! هكذا كانت المنافسة الفنية الشريفة تنتج لنا أجمل الأعمال بدون شلل أو تدخلات بينهما، فهؤلاء الناس - رحمهم الله جميعا- كانوا بالفعل عظماء وأثرْوا الفن.

حبيب العمر 

- من الفنانات التي كانت صديقة صدوقة لفريد مثل مديحة يسري؟ دونما تقع في حبه أو تبحث عن الشهرة من خلاله؟

‏o صباح، و فاتن حمامة،  وليلي فوزي. رغم ما تردد أنه أحب ليلى فوزي أثناء فيلم دلال وجمال.. لست متأكدا! ولكن الأكيد أنه كان "حبيب العمر" لسامية جمال التي أحبته من قلبها وبادلها هو الحب لمدة ثلاثة عشر عاما، بينما حب حياته الحقيقي كانت شادية! ويستعيد فيصل ذكرياته، قائلا: "سامية جمال أنا بحبها شخصيا، وبازعل لما أقول بحب شادية، لإن الاثنين دلعوني وشالوني وحطوني على حِجرهم، وكنت عاوزهم الاتنين في حياة فريد.. لكن القرار ده كان بتاعه هو"..

‏o شخصيا، يستكمل فيصل: أرفض كل ما قيل وقتها عن عدم مناسبة سامية للارتباط بإسم عائلة الأطرش، لكونها فلاحة أو راقصة ".......كل ده طظ.. طظ في أي إنسان يعتقد إن الفن شيء رخيص أو ما يشرفش صاحبه"! والدليل هو إن فريد الأطرش هو الذي أحيا اسمنا كعائلة الأطرش.. الإمارة والسلاطين! "عِدي وشوفي، هاتلاقي كل حاجة وكل الصناعات، وقادة وخلفاء، و..و.. ورغم كده فريد هو اللي أحيا اسمنا! المُغني الذي ترقص خلفه الراقصات هو اللي عمل اسمنا وجعله يعيش ألف سنة"!

- ولماذا لم يتزوج فريد من عائلة الأطرش؟ ففي كل حواراته كان يذكر أنه يبحث عن زوجة بمواصفات عائلية..

‏o انا متأكد من وجود بعض الشخصيات التي كانت تتمنى الارتباط بفريد من العائلة، ولكن أغلب ظني أنه كان واضحا وصادقا مع نفسه ويعرف قدراته بعد المرض والذبحات القلبية التي أصابته! ودعكِ من قصة هو أحب من، ومن أحبته! فهو كإنسان وفنان كان لا يستطيع الحياة بغير حب، بينما هو بنفسه قالها صراحة - حتى في أفلامه - أنه يشفق على أية زوجة تتحمل حياته كفنان، وتتحمله في مرضه! كما إن حبه للفن كان لن يجعله يأتي بضرة لفنه وموسيقاه. هذا غير أنني أتصور لو لم يكن فريد مطربا لكان صار شهيدا منذ زمان! فهو شخص مقاتل وعنيد ومتمرد وثوري وقائد يذهب وراء ما يؤمن به بكل قلبه كالشهداء! وما لم يفعله في ميدان القتال، فعله بكل كيانه في ميدان الفن والموسيقى! ولهذا خلده الجمهور.

الأستاذ وليس الأمير

- ما الذي لا نعرفه عن تفاصيل قصة حبه لناريمان؟ ملكة مصر السابقة..

‏o فريد كان صديق لعائلة ناريمان، التي كانت مخطوبة قبلما يطلبها الملك للزواج، وهي أحبت الملك وتزوجته. ولما حدث انقلاب يوليو 1952 وسافر الملك لإيطاليا سافرت هي معه، ثم وقع الطلاق بعد سنة تقريبا! وعادت لمصر، وما عرفته أنه كانت هناك مشكلة في مسألة رجوعها، وقام فريد الأطرش بالتدخل، وكان له دورا كبيرا في حلها، وهنا خرجت الشائعات باحتمال زواح مرتقب بين فريد وناريمان لكثرة مشاهدتهما معا أثناء الإجراءات والأوراق وخلافه. والواقع أن فريد بالفعل أحبها حبا حقيقيا. وباقي القصة أن أصيلة هانم والدة ناريمان خرجت بتصريحات تنفي الخبر، وتعلن رفضها لزواج ابنتها من فنان! فيسكت فريد؟ بالطبع لا – كما يقول فيصل-: فقال جملته الشهيرة: "هي ملكة من ثلاث سنين وأنا من ألف سنة"! إلا أن الصدمة كانت شديدة ولم يصدقها فريد فأصيب بذبحة صدرية!

ويعتقد فيصل أن فريد كان في يحب فتاة من بنات الحسب والنسب أيضا، ورفضته أسرتها لأنه فنان مشخصاتي! فربما تكرار الموقف وتراكمه... مع اعتزازه بنفسه كابن الأمراء هو الذي أدى لوقوع الصدمة التي أدت لأول ذبحة صدرية كما تردد وقتها! والطريف، أن فريد منذ ذلك الوقت بدأ يرفض أن يلقب بالأمير وبدأ يردد أنه الأستاذ فريد وليس الأمير فريد!

نرشح لك: "رصيف بيروت".. حينما تتحول الصداقة إلى حكاية وطن

سر وسام الخلود

- لماذا استمع العالم لموسيقى فريد وأخذ منها؟ دونا عن كل الموسيقيين الشرقيين مثل عبد الوهاب والسنباطي! ولماذا في رأيك لم تمنح فرنسا فنانا عربيا آخر التقدير والأوسمة التي منحتها لفريد؟

‏o لأسباب عديدة، منها أن فريد هو أول من أدخل الآلات الغربية في الموسيقى الشرقية وطوعها للحن الشرقي، مثل آلة الجيتار والأورج والمنشار، وهو أو ل من طور الأوبريت الغنائي، وأول من أدخل المقدمة الطويلة بالأغنية. وهو الذي أدمج الموسيقى الغربية بالشرقية، فلم يشعر الجمهور الأوروبي مثلا بغرابة موسيقاه مثلما قالت المطربة مايا كازابيانكا وأوضحت أن موسيقى فريد هي روح الشرق، وهي ذات طابع عالمي بما يمتلك من موهبة شرقية مقبولة عند الأذن الغربية، وأنماط غربية مقبولة عند الأذن الشرقية! فتحدث عنه الكثيرون من المطربين والموسيقيين العالمين أذكر منهم مقولة شارل آزنافور "لو عاش بيننا لقضى علينا جميعا"! مثلما وصفه فرانك سيناترا بأنه “هرم العرب الموسيقي”، وأكد إلتون جون أنه “لا موسيقى تقربنا إليكم في الشرق إلا موسيقى فريد الأطرش! وأذكر قول انريكو ماسياس لأنه زارنا في البيت، فوصف فريد بأنه عبقري عالمي لا عربي فقط… بالإضافة لقيام بعض موزعي الموسيقى العالميين مثل الفرنسي فرانك بورسيل بإعادة توزيع بعض ألحانه، وحاليا قام الموسيقي العالمي الهولندي أندريه ريو  بتوزيع بعض موسيقاه التي تخاطب الذوق الغربي.

‏o وباقي الحديث عن عدد الأوسمة و النياشين، ومنحه وسام الخلود الفرنسي، وذكر اسمه بالموسوعة الفنية الفرنسة، وحصوله على جائزة أحسن عازف عود بتركيا، وغيرها .. فقد صارت معروفة لجميع الناس، وكُتب عنها مئات المرات! وبالمناسبة، انا أحتفظ بميدالية الخلود الفرنسية التي حصل عليها  فريد سنة 1975، وهذا الكلام لمن يشكك في صحة هذه الميدالية ويزعم غير ذلك! وأزيدك من الشعر بيتا، ففي عام 2009 وضع التمثال النصفي رقم 26 للموسيقار فريد الأطرش بمتحف الخالدين في برلين بجانب شوبان، بيتهوفن، وموتسارت!

‏o أما لماذا لم تمنح فرنسا وسام الخلود لفنان عربي آخر؟ يجيب فيصل: السبب أوضحته فرنسا نفسها، حينما قالت إن  العمل الموسيقي العالمي قد اكتمل بجهود هؤلاء الثلاثة.. بيتهوفن وشوبان وفريد الأطرش!                                     

  
- هل لاحظت أن اليهود يحبون فريد ؟

‏o نعم يحبونه جدا! وتفسيري أن عندهم ذوق وأخلاق! ونحن نتكلم عن اليهود وليس الصهاينة! والمعروف أن ربع الفنانين العظماء في مصر كانوا يهودا! وهذا شيء لا يعيب أحد، بالعكس، ينقل لنا الثقافة والانفتاح السائد وقتها! واليهود العرب ليسوا فصيلا بعيدا عن منطقتنا، فلدينا الجزائري اليهودي، والمغربي اليهودي، واللبناني والعراقي اليهودي ايضا! كديانة يهودية للسفارديم اليهود! وليس كهوية صهيونية! فبحكم هويتهم الشرقية كأبناء عمومة، يكون صوت أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم و وفريد أقرب لهم.

- بصراحة، لو لم يكن فريد عمك، هل كنت ستحبه كمطرب؟

‏o بلا شك! الأمر لا علاقة له بكونه عمي! فريد الأطرش المطرب يمتلك صوتا جبليا قويا شجيا، رجوليا ممزوجا بالعاطفة والحنان، لم يتغير منذ بدأ الغناء حتى آخر اغنياته؛ بنفس القوة والوضوح والصفاء... مثلما كان مطيعا لجميع أنواع الغناء التي غناها بنفس الجمال والعذوبة. بل أكثر ما يميز صوته أنه كان يجسد ويعيش كل كلمة يغنيها، وكأنه يمثلها بصوته! فكان صوته حزينا وعذبا وهو يغني الأغاني الحزينة، ومنطلقا وسعيدا وهو يغني الأغاني الشعبية الخفيفة! على العكس من بعض المطربين الذين كانوا يؤدون كل الأغاني بنغمة صوت واحدة، دونما تستطيع أصواتهم معايشة الكلمة التي يتغنون بها... فينعس منهم الجمهور!  

فيروز ... وفريد

- لماذا لم يغنِ فريد لنزار القباني؟ ولم يلحن لفيروز أيضا..

‏o لا أعرف لماذا لم يغنِ لنزار! أمافيروز، فلديّ حوالي 500 ساعة بروڤات غنائية بينها وبين فريد على اسطوانات تحتاج أجهزة عالية حتى أخرجها للنور للجمهور! مثلما تحتاج صبرا وجهدا لا أملكه الحقيقة. وفي نفس الوقت أخشى أن اعطي هذه الثروة لشركة أو مكتب متخصص في تفريغ الصوت بنقاوة.. فيتم سرقتها أو التلاعب بها!

ولأن فيصل يعرف أنه لا يمكن انتظار خمسين عاما أخرى حتى نستمع لفيروز وهي تغني لفريد، وأن خروج هذه التسجيلات هي تكريم جديد لفريد، بل وتكريم لفيروز .. التي تستحق أن تراه في حياتها. واستثمار لتعطش الجيل الحالي لأصالة الفنانين الذين ساهموا في تكوين أذواقنا  وذكرياتنا!

وفي النهاية، ختمنا حوارنا.. وفيصل يتعهد لنفسه ولي أن يخرج لنا هذه الثروة للنور، في أقرب وقت ممكن!