أبو الفتح عثمان بن جني، أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري، أبو البقاء العكبري، أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد الشيباني التبريزي، أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا الزهري ابن الإفليلي، أبو العلاء المعري، أبو العباس أحمد بن علي بن معقل الأزدي المهلبي، ناصيف اليازجي، عبد الرحمن البرقوقي.
تلك أسماء بعض شرّاح ديوان المتنبي من الأعلام، أمّا الأسماء التي تناولت حياة وإبداع شاعرنا العظيم بالتحليل والنقد فهي أضعاف مضاعفة امتدّت منذ عصر شاعرنا ولا تزال تتزايد إلى حدود لا يمكن إدراكها في مقام عابر.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المتنبي بين الموهبة والشغف
ومثلما أشرنا من قبل، صدقت نبوءة شاعرنا تماماً إذ قال:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها ** وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
والبيت أعلاه نفسه لم يسلم من الاختلاف في فهم المراد منه، ففي "كتاب المآخذ على شُراح ديوان أبي الطيب المتنبي" – نسخة على الإنترنت – يقول ابن معقل الأزدي ردّاً على شرح الواحدي للبيت: "يقول الواحدي: أنا أنام عنها وجفوني ممتلئة بها، كأني أنظر إليها، والناس يسهرون ويتعبون ويختصمون. وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء لأنه لم يذكر ما معنى نومه عن شواردها، ولا لأي سبب يسهر الناس ويختصمون لأجلها؛ وذلك أن هذه شوارد ليست كالإبل الشوارد التي يسهر الإنسان في طلبها، وإنما هي قواف فلا أخشى عليها إذا شردت، ولا أسهر في طلبها إذا ندّت، بل أنام ملء جفوني لأنها حينئذ تكون محفوظة لا ضائعة، وقوله: "ويَسْهَرُ الخلق جَرَّاهَا" أي: محبة لها واهتماماً بها، و"يختصم": لأن كل أحد يريد أن يحويها ويستبد بها، لجلالتها وجلالة من يُمتدح بها. ويحتمل أن يكون ذلك في استنباط معانيها بغموضها والخلاف الذي يقع بينهم فيها".
ذلك مثال جدّ عابر على اختلاف شارحَين بارزين حول بيت واحد؛ وإذا كان كتاب ابن معقل - "كتاب المآخذ على شُراح ديوان أبي الطيب المتنبي" - كلّه اختلاف في شرح شعر المتنبي بين شُرّاح الديوان وبين ابن معقل، فما وراء ذلك من الاختلاف بين الخاصة والعامة في كل العصور ما يندّ ذكرُه عن الحصر مهما يكن المقام مستفيضاً كما هو الحال مع تحليل ونقد الديوان على نحو ما سلفت الإشارة.
وإذا اختلف الشرّاح حول المراد من أبيات شاعرنا العظيم في هذا السياق وذاك لدواعٍ لغوية/أدبية صرفة في الغالب، فإن نقّاد المتنبي كانوا أشدّ اختلافاً لأنهم تجاوزوا بطبيعة مهمتهم الدلالاتِ اللغوية/الأدبية المجرّدة إلى ما هو أشدّ تعقيداً منها على صعيد الإحالات النفسية والاجتماعية والتاريخية؛ وشخصية المتنبي وطبيعة عصره لا يمكن أن ينبثق عنهما سوى الاختلاف والثراء البالغين في مقام الاستقراء والاستنباط والتأويل والتحليل، فضلاً عن التذوّق الجمالي حمّال الوجوه بلا حساب معدود.
لم يزد النقّاد إزاء غريب أبي تمام – على سبيل المثال – بأكثر من ردّات الفعل المستهجنة في أغلب الأحوال غير منكرين مقام الشاعر الكبير، في حين استفزّهم غريبُ المتنبي بالوقوف والتأمّل والشرح المستفيض بما تعدّى مجرّد السهر والاختصام إلى حيث تحققت فوائد ومتع خالدة في وجدان العرب الأدبي بتجلّياته النفسية والاجتماعية والسياسية.
هذا، وقد بدا المتنبي كما لو أنه عمد إلى التصريح لا التلميح في استفزاز جمهوره ونقّاده تجاه غريب ألفاظه ومعانيه، فهو لم يقل لهم إنكم لن تستطيعوا فهمي فيستثيرهم بذلك وإنما قال ستحاولون فهمي وستتعبون وتختصمون. بهذا، فإن ما عمد إليه شاعرنا أقرب إلى النبوءة منه إلى الاستفزاز؛ والأغلب أنه رأى التعب/السهر والخصومة بين قرّائه في شرح شعره إبّان حياته رأي العين فقصد ما رآه لا غير ذلك ممّا يمكن أن يقع مع جماهيره مستقبلاً لما يمتدّ لأكثر من عشرة قرون.
وقد استفسر شاعرنا مستنكراً:
مَن لي بِفَهمِ أُهَيلِ عَصرٍ يَدَّعي ** أَن يَحسُبَ الهِندِيَّ فيهِم باقِلُ
فبلغ بذلك من الاستخفاف بجميع أهل عصره مبلغاً عظيماً؛ وإذ كان الاستخفاف ببني آدم وتحقيرهم ليس غريباً على المتنبي بحال (لَوَ اِستَطَعتُ رَكِبتُ الناسَ كُلَّهُمُ ** إِلى سَعيدِ بنِ عَبدِ اللَهِ بُعرانا) فإنه في البيت أعلاه يكاد يقطع الطريق على كل محاولات جماهيره ونقّاده لفهمه، ومع ذلك تسابقت الجماهير إلى شعره وأقبل الشرّاح على ديوانه والنقّاد على أدبه وسيرته. وإذا كان نقّاده قد اختلفوا فيه بين محبِ مبالغ في المحبة ومبغضٍ مغالٍ في الكراهية، فإن شرّاحه في عمومهم من خاصة متابعيه الذين جازَوه على استفزازه وتحدّيه وتقليله من شأنهم إعجاباً وحبّاً خالصين.
وحين يقول شاعرنا:
شاعِرُ المَجدِ خِدنُهُ شاعِرُ اللَفـ ** ـظِ كِلانا رَبُّ المَعاني الدِقاقِ
فإنه بذلك يتنازل مكتفياً من المجد الذي ظلّ يطمح إليه على صعيد الملك/السلطة بمنجزه الشعري، وتحديداً بما يفترعه من دقاق/غرائب المعاني الأدبية مقابل دقاق معاني المجد التي يفترعها الممدوح. وإذا كان المتنبي قد تصدّى لدقاق معاني المجد التي ابتدعها الممدوح فأبانها، فإن دقاق معانيه الشعرية تستوجب كثرة الشرّاح العارفين، غير أن شاعرنا بالِغ الترفّع لا يبدو أصلاً مهتمّاً بدعوة الشرّاح إلى كشف بدائع معانيه الدقيقة مستغنياً برضا ممدوحه وإعجابه، ومكتفياً بهذه الضربة المهينة لزملائه من الشعراء المادحين:
لَم تَزَل تَسمَعُ المَديحَ وَلَكِنْ ** نَ صَهيلَ الجِيادِ غَيرُ النُهاقِ
إذا كان الناس من العامة والخاصة قد سهروا واختصموا بالفعل جرّاء شوارد المتنبي، فإن ذلك كان ابتداءً لبراعة شاعرنا الفنية وبداعة مراميه البلاغية مبنى ومعنى؛ وإنْ يكن إمعانُه المتعمَّد في نشدان غرائب المعاني وصياغة تلك الغرائب الطريفة ببراعة منقطعة النظير من أبرز الأسباب التي أفضت إلى احتشاد الشُّرَّاح على عتبات ديوانه وتوغّلهم في سوحه وزواياه بالتفسير والتحليل على توالي العصور.