على غير ما أراده رولان بارت، أحيت فكرتُه/نظريتُه المؤلِّفَ عوضاً عن أن تقتله حين منحته – من حيث لم تقصد – شرف أن تشاهده الجماهير في دور الضحية؛ وعلى غير ما أراده أرباب مدارس النقد التقليدية عندنا فإنهم ظلّوا منذ أزل النقد الأدبي عربياً يقتلون مؤلفيهم في غضون بحثهم عن المعاني المتوارية في النصوص التي يتناولونها بالقراءة والتحليل قبل أن يبرِّئوا أنفسهم مع نهاية القراءة النقدية بالجملة الشهيرة: "المعنى في بطن الشاعر".
يلذّ لي أن أزعم أن نقّادنا القدامى لم يتركوا مستوى حداثياً لم يرقوا إليه وهم يُعمِلون حواسَّهم في القصيدة العربية الغنائية، عدا العنوان الذي خلت منه قصائدنا منذ نشأة آدابنا وإلى ما قبل عصرنا الحديث هذا؛ وكانت القصيدة على مدى ذلك التاريخ المديد تُعرَف في الغالب بأول كلمتين منها، وأحياناً بكلمتين تدلّان على مناسبتها، أو باسم/لقب يشير إلى طرَف من قصّتها.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب اختصام الخلق وكثرة الشُّرّاح
أولى النقاد العرب القدامى اهتماماً بالغاً بكل كلمة، بل في بعض الأحيان والمواضع بالحروف ضمن الكلمة في النصّ الشعري؛ ورغم أنهم لم يتجاهلوا الشاعر فإنهم كانوا يدرسون بنية النصِّ والمؤلفُ إنْ لم يكن بالنسبة لهم في اعتبار الميّت مؤقتاً – من حيث لا يقصدون - فعلى الأقل يقبع في مؤخرة عقلهم الواعي إلى حين؛ ورغم أنهم لم يكونوا يستبعدون تماماً الظروف الشخصية والاجتماعية والسياسية المحيطة، فإن تحليلهم وتذوّقهم لكل بيت وكل كلمة في القصيدة كان كثيراً ما ينطلق من مرجع فنيّ جماليّ في المقام الأول، وطالما تركوا الأبيات والكلمات تفسّر نفسها بنفسها، أيضاً انطلاقاً من مرجعية جمالية فنيّة خالصة.
وحين كان نقّادنا القدامى يعمدون – من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون – إلى استبعاد المؤلف لفهم النصّ، فإنهم في الواقع كانوا يستعيضون عن ذلك المؤلف بمؤلف افتراضي آخر يتخيّلون قصده، وكان ذلك المؤلف الآخر هم أنفسهم؛ أي أن الناقد بدا في تراثنا كما لو أنه ينصّب نفسه مؤلّفاً للنصّ ليُخرِج ما في بطنه من المعاني على أنها المراد من القصيدة/البيت/الكلمة؛ وبذلك فإن مفهوم البنيوية الحداثي لم يكن بطبيعة الحال متحقّقاً بصورة ذات بال، فالنصّ الشعري لم تكن بنياته المتعددة تُدرَس بمعزل تامّ عمّا أحاط بظروف ولادة القصيدة، بل في الغالب بأخذ كل المؤثرات المحيطة في الاعتبار، وإن يكن في محاولة لفهم النص بناءً على تلك المؤثرات في أكثر من سياق مختلف؛ فنقّادنا بذلك ربما كانوا أقرب إلى مفاهيم ما بعد حداثية كالتفكيكية من حيث إساءة فهمهم للنصوص – على سبيل المثال – بتحميلها كل الوجوه الممكنة حتى لو كانت متناقضة، ولكن أيضاً في حضرة المؤثرات المحيطة نفسياً واجتماعياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً، وليس بإقصاء تلك المؤثرات تماماً وإقصاء الشاعر/المؤلف نفسه من قبل.
ذلك عن تراثنا الشعري إجمالاً إذْ وقف عليه نقّادنا القدامى، فماذا عن المتنبي تحديداً ونقّاده المتشاكسين؟
بقدر ما أتاح ديوان المتنبي ببديعه وغريبه وطريفه من الكلمات والمعاني متّسعاً لنقّاده كي يتناولوا أبنيته ويفكّكوه لإظهار المعاني المتوازية والمتقاطعة والمتناقضة وكلّ ما يمكن أن يفجّره النصّ ذاتياً فيفضحه من كل الوجوه المحتملة، بقدر ما أتاح ديوان المتنبي ذلك فإن الديوان وصاحبه قد أغريا بنقيض ذلك في الوقت نفسه بذات القوّة، بل بأشدّ منها.
لا يخذل المتنبي إذن نقّاده من أية جهة يمّموا شطره، فشعره حمّال وجوه تتيح للحداثيين وما بعد الحداثيين ما يلذّ لهم من مستويات الأبنية وما يشبع نشوتهم من أشكال التفكيك؛ وشعره محتقن بالأبعاد النفسية والاجتماعية والإحالات العرقية والدينية والتاريخية بما يجعل دراسته في ظلال تلك المؤثرات تجربة نقدية بالغة الثراء.
يبيع المتنبي منتجاً شعرياً يمتزج فيه ما هو لغوي/أدبي بما هو نفسي/اجتماعي/تاريخي، وذلك بحيث لا يستحيل الفصل بين الحمولتين (اللغوية/الأدبية والنفسية/الاجتماعية/التاريخية) لمن أراد الفصل، وفي الوقت ذاته بحيث يمنح امتزاج الحمولتين أبعاداً معمّقة للنقد لمن لا يرى بأساً بتناول الحمولة الأولى للنص في أضواء حمولته الثانية.
غير أن ذاتية المتنبّي التي تطلّ على نحو استثنائي من كل قصائده تجعل موته مسألة بالغة الصعوبة لأنصار الحداثة وما بعدها؛ حتى إن شبح المتنبي يبدو كما لو كان يطارد أولئك الذين يتوهّمون موته/قتله وهم يدرسونه فيصفعهم صفعاً، فالرجل لا يرضى بالتلميح في الإشارات إلى نفسه في كل قصيدة، وهو بعدُ لا يكتفي بمجرّد التصريح وإنما يجاهر بالمبالغة في إشاراته إلى نفسه مستعلياً على منافسيه من الشعراء والأدباء، وعلى الناس قاطبة دون أن يكونوا كلّهم – بطبيعة الحال – في موضع عداء معه، بل يستعلي على أعظم ممدوحيه من الملوك وأحبهم إلى قلبه إذا لزم الأمر، وذلك على نحو ما رأينا تفصيلاً في أكثر من مقام مستقل.
لم يمتلك المتنبي شخصية نابضة تطلّ من كل قصائده فحسب، وإنما امتلك كاريزما عابرة للقرون ظلّت تشكّل تحدّياً سافراً لكل من يفكّر في إقصائه لدى دراسة إبداعه، ولا نعني بذلك أن قصائد شاعرنا استعصت على أنصار الحداثة وما بعدها بقدر ما كانت أشدّ إغراءً لدراستها على أضواء ما ارتبط بها من أبعاد نفسية واجتماعية وتاريخية بالنظر إلى شخصية صاحبها التي كادت تمتزج بكل كلمة قالها مهما تبدُ متجرّدة لغوياً وبكل معنى طرحه مهما يَلُحْ محلّقاً في فضاء إنساني بلا قيود.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: [email protected]