عمرو منير دهب يكتب: هو الحكيم وهو الشاعر

" ‬أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري"، من المستبعد جداً بل من المستحيل تقريباً أن تكون العبارة صدرت عن المتنبي كما تشير بعض الروايات؛ فالرجل كما تدلّ كل كلمة من ديوانه في سياق مقارنة نفسه بغيره من الشعراء لم يكن تقريباً يعترف بشاعر غيره، وكان في أغلب أوقاته ينكر أصلاً معرفته بشعراء عصره ومن سبقوه وينفي أنه يقرأ لأشهرهم ممّا لا يسعه إنكار وجودهم. أمّا صدور العبارة بالصيغة التالية عن أبي العلاء المعري: "المتنبي وأبو تمام حكيمان أما الشاعر فالبحتري" فأمرٌ مستبعَدٌ كذلك، وإن يكن ممكناً إذا كان لا بدّ من المفاضلة في نسبة العبارة بين الاحتمالين: المتنبي وأبي العلاء؛ وجدير أن نتذكّر في هذا المقام أن المعري أنزل شعر المتنبي منازل المعجزات الأدبية فسمّى شرحه ديوانَ أبي الطيب "معجز أحمد" مجملاً ولم يقل "معجز حكمة أحمد" على سبيل المثال.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: أبرز مدمّري نظرية موت المؤلّف

مهما يكن، سارت العبارة بين الناس ولقيت استحساناً كبيراً حتى إن عشّاق المتنبي لم ينكروها بقدر ما عدّوها دليلاً على سموّ مكانة شاعرهم الأثير باعتبار الحكمة أرفع منزلةً من الشعر، أو على الأقل باعتبارها أرفع منازل الشعر.

وقفنا من قبل بشيء من التفصيل مع المتنبي وهو يترفّع عن الناس قاطبةً، بصرف البصر عن المسوّغات الغائبة/المعدومة لذلك الترفّع المطلق. ووقفنا أيضاً على تعاليه على الشعراء قاطبة؛ وإذا كان ثمة ما يسوّغ ذلك التعالي فإن شاعرنا قد تجاوز فيه المنطق في كثير من/معظم الأحيان إلى حدّ إهمال/إقصاء/نفي زملائه في الصنعة عن الوجود الأدبي، كأنّما لا يشبع غرورَه تأكيدُ تفوّقه المطلق عليهم فحسب.

تباهى المتنبي على الشعراء جميعاً، فقال على سبيل المثال ممّا عرضنا له سابقاً:

لا تَجسُرُ الفُصَحاءُ تُنشِدُ هَهُنا ** بَيتاً وَلَكِنّي الهِزَبرُ الباسِلُ

ما نالَ أَهلُ الجاهِلِيَّةِ كُلُّهُم ** شِعري وَلا سَمِعَت بِسِحرِيَ بابِلُ

أَفي كُلِّ يَومٍ تَحتَ ضِبني شُوَيعِرٌ ** ضَعيفٌ يُقاويني قَصيرٌ يُطاوِلُ

أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما ** بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا

وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني**أَنا الطائرُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

أَنا تِربُ النَدى وَرَبُّ القَوافي ** وَسِمامُ العِدا وَغَيظُ الحَسودِ

شاعِرُ المَجدِ خِدنُهُ شاعِرُ اللَفـ ** ـظِ كِلانا رَبُّ المَعاني الدِقاقِ

لَم تَزَل تَسمَعُ المَديحَ وَلَكِنـ ** ـنَ صَهيلَ الجِيادِ غَيرُ النُهاقِ

غير أنّ الأجدر بالوقوف عنده في مقامنا هذا هو انتباه المتنبّي لمزيّة بالغة الدلالة في صعيد تأكيد فرادة شاعريّته، وهي سريان شعره على نحو استثنائيّ بين الناس واختراقه الآفاق؛ يقول على سبيل المثال:

وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قصائدي ** إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً

فَشَرَّقَ حَتّى لَيسَ لِلشَرقِ مَشرِقٌ ** وَغَرَّبَ حَتّى لَيسَ لِلغَربِ مَغرِبُ

إِذا قُلتُهُ لَم يَمتَنِع مِن وُصولِهِ ** جِدارٌ مُعَلّى أَو خِباءٌ مُطَنَّبُ

أمّا الأعظم أهمية في مقامنا هذا فهو التفات المتنبي إلى صفة أبلغ دلالة من سابقتها على صعيد تأكيد استثنائية شاعريته، وهي انتباه حتى مَن لا يعنيهم أمرُ الشعر/الأدب في كثير أو قليل إلى أبياته واحتفائهم بها؛ يقول على سبيل المثال:

أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي ** وأسْمعَت كلماتي مَن بهِ صَمَمُ

فَسارَ بِهِ مَن لا يَسيرُ مُشَمِّرا ** وَغَنّى بِهِ مَن لا يُغَنّي مُغَرِّدا

قلنا "الشاعريّة" ولم نقل قدرته على قول "الحِكَم" أو "الأمثال" أو "براعة قراءة النفس البشرية" أو غيرها ممّا يشير إلى ما اشتمل عليه شعره من الخصائص التي ميّزته وأعجبت الناس بالفعل، ذلك أن قصائده لو لم تتميّز بـ"شعريّتها" الاستثنائية ابتداءً لما تسنّى لحِكَمه/أمثاله ونظراته الجريئة في النفس البشرية أن تنتشر بين الناس ذلك الانتشار منقطع المثال.

وما نعنيه بـ"الشعرية" ليس سوى اشتمال القصيدة – أو حتى البيت الواحد – على الصفات التي تميّز الشعر عن غيره من أجناس الأدب وألوان الكلام، وذلك – بطبيعة الحال – بأخذ نسبيّة تقييم الناس لما هو شعر في الاعتبار؛ وأخْذُنا تلك النسبية في الاعتبار ليس لمجرد إبراء الذمّة بتأكيد قبول الاختلاف في التقييم، وإنما هو أمر بالغ الأهمية – إن لم يكن الأهم على الإطلاق – في مقامنا هذا، فانتشار شعر المتنبي إلى ذلك المدى – حتى إذا كان هو يبالغ في تضخيمه – بمثابة الدليل الدامغ على سطوته على وجدان الجماهير، ومن ثمّ نزولهم على ما في ديوانه من شعريّة فريدة، ليس من باب الإجماع بطبيعة الحال وإنما بما يلزم من الاكتساح لتأكيد السبق والانفراد بالجماهيرية منقطعة النظير.

أمّا "الشاعرية"، فليس عسيراً أن نستنج التعريف الأمثل لها: أن تتوفّر في الشاعر الصفات التي تؤهّل قصائده لأن تنطبق عليها مواصفات الشعريّة. وعليه فإن سموّ الشعرية في ديوان الشاعر إنما هو دلالةٌ على أصالة وسموّ موهبته/شاعريته؛ وإن يكن العكس ليس صحيحاً في كل الأحوال، فالشاعر الذي يُرزق حظاً عظيماً من الشاعرية لا يستثمره على الوجه الأمثل لن نقع في قصائده على مستوى من الشعرية يمكن مقارنته بآخر رزق حظاً مماثلاً من الشاعرية واستثمره أفضل استثمار من حيث العمل على الموهبة والحرص على الإنتاج والتدقيق في المنتج الشعري وتطويره.

بذلك في الاعتبار، يبرز المتنبي بوصفه شاعراً منقطع المثال لا حكيماً فحسب. وحتى بأخذ ما شاع من مميّزات البحتري - على سبيل المثال - وأضرابه من الشعراء الموصوفين بالمطبوعين، كجمال الألفاظ وسلاسة التعابير وحسن الجَرْس، فإن تلك الصفات تميّز شعراءها بوضعهم في فئة خاصة تلتزم ذلك النمط في التعبير الشعري لكنها لا تجعل الشاعرية حكراً عليهم أو ألصق بهم أكثر من غيرهم ممّن ينتهجون مناهج أخرى في إبداع الشعر بالضرورة؛ فالشعرية المثلى – الصادرة عن شاعرية مثلى بدورها – هي إذن جماع الصفات الأدبية والفكرية التي يمكن أن تندمج في الأبيات/القصيدة على النحو الأمثل ألفاظاً ومعانيَ فتسري في الآفاق وتقتحم العصور إلى الناس كافة لا إلى قبيل منهم دون قبيل تأسيساً على أفضليّات بعينها في التذوّق الشعري.