بين الحرب والحرية.. شهادات سينمائية على معاناة المهمشين بمهرجان الإسماعيلية

سالي فراج

المستضعفون في الأرض دائمًا ما يكون صوتهم خافتًا، بالكاد يُسمع وسط ضجيج العالم، يمرون بجراحهم في صمت دون أن يحظوا بالاهتمام الكافي، رغم أن قصصهم تحمل في طياتها معانٍ إنسانية عميقة تستحق أن تُروى.

هذا ما حاولت مجموعة من الأفلام التسجيلية القصيرة المشاركة في مسابقة مهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية القصيرة بدورته الـ26 تسليط الضوء عليه، حيث قدّمت شهادات بصرية مؤثرة تحت عنوان "آلام الطفولة"، والتي جمعت ما بين تأثير معاناة الطفولة ومعاناة الحرب، والصراعات الاجتماعية التي تحاصر الفئات المهمشة حول العالم.

"حيث يزهر الياسمين دائمًا".. صوت الضحية في مواجهة الدمار

في قلب مدينة عربية مزّقتها الحرب، تدور أحداث الفيلم التحريكي القصير "حيث يزهر الياسمين دائمًا" للمخرج حسين بستوني، الذي يأخذ المشاهد في رحلة داخل يوميات مواطن عادي يجد نفسه فجأة وسط خراب لا نهاية له.


في 9 دقائق فقط، يعكس الفيلم مأساة مدينة أُبيدت عن بكرة أبيها، وشعبٍ لم يعد له وطن تحتمي به، من خلال مشاهد التحريك المتقنة وجمل البطل المليئة بالألم، تظهر آثار الحرب التي قضت على الأخضر واليابس، تتجلى المعاناة من كلام البطل مثل: "سمعنا سما الحرية صار عليها حراس.. حريتي صارت جريمة.. جوعوني، الرصاص صار أغلى من الروح".

ينهك البطل بسبب الدمار، لكنه يبقى شاهدًا على كل شيء، ورغم الخراب، ينبت الياسمين في النهاية كرمز للحياة التي تستمر رغم الألم، والمقاومة التي لا تموت.




"ما بعد بيروت".. ذاكرة الألم والانتحار الصامت

يستعيد المخرج بيار موزانار في فيلمه "ما بعد بيروت" لحظات من الصراع الداخلي الذي تعيشه العائلات اللبنانية بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية، في 23 دقيقة فقط، حيث يبدأ الفيلم بمشهد صادم لانتحار فتاة شابة، ثم تعود روحها للبنان، وكأنها تعيد استكشاف ماضيها وتوثيق ذكرياتها.

العمل يسرد مأساة عائلة لبنانية تفكر في الهجرة إلى شمال أوروبا، وسط انقسام بين الأب الذي يريد الرحيل والأم التي تتشبث بالوطن، وفي عودة للخلف تنكشف تفاصيل صراعهم الداخلي، حيث تتشابك الذكريات الشخصية مع الأحداث السياسية، في انعكاس واقعي لحياة آلاف الأسر اللبنانية العالقة بين حلم البقاء ومرارة الرحيل.

"سكون".. صرخة صامتة في وجه القهر

تقدم المخرجة دينا ناصر فيلمها "سكون"، الذي يسرد مأساة فتاة تعاني من إعاقة في السمع وتُمارس رياضة الكاراتيه، لكنها تواجه تحرشًا من مدربها، لتجد نفسها عاجزة عن الدفاع عن ذاتها أو التعبير عن صدمتها.

ما يميز الفيلم هو أن الصوت يُوظَّف ليضع المُشاهد في مكان البطلة، حيث نشعر كما تشعر، نسمع كما تسمع، وبعد لحظة التعدي عليها، يكون صمتها أكثر تعبيرًا من أي صراخ، حيث تعجز عن إبلاغ والدتها بما حدث، وتُترك وحدها في مواجهة عالم لا يراها.

لكن قبل النهاية، يقرر الفيلم منحها انتصارها الخاص، عندما تتحدى نفسها في محاولة لأن تنال المسابقة التي ستشارك بها.

"يوم استقلالي".. حلم بسيط في ظل القمع

يعود فيلم "يوم استقلالي" إلى أواخر الثمانينيات في تشيلي، حيث تتابع الكاميرا قصة فتاة صغيرة تتمنى الحصول على فستان رأته في مسابقة ملكة جمال الكون بالتلفاز وعندما تحصل عليه تتحول سعادتها إلى مأساة بعدما يُعتقل شقيقها بسبب احتجاجه ضد ديكتاتورية "أوغوستو بينوشيه"، التي كانت تسيطر على البلاد آنذاك.

من خلال هذه الحكاية البسيطة، يعكس الفيلم كيف أن حتى الأحلام الصغيرة قد تكون أول ضحايا القمع السياسي.



"الخروج عبر عش الوقواق".. عندما يصبح السلام جريمة

على خلفية الحرب في بلجراد، يحكي فيلم "الخروج عبر عش الوقواق" قصة رجل يرفض الانضمام للجيش، ليس خوفًا، بل إيمانًا بالسلام، لكن هذا الرفض لم يكن خيارًا في بلد مزقته النزاعات، فيُلقى به في السجن بتهمة التمرد، ويُعامل كـ"مجنون نفسي".

الفيلم يتناول قضية معقدة فهل يمكن للمرء أن يرفض القتال دفاعًا عن وطنه، ويظل وطنيًا في نظر الآخرين؟ الإجابة هنا ليست مباشرة، لكن ما يُقدمه الفيلم هو شهادة حقيقية عن معاناة من يرفضون الانخراط في العنف، ويدفعون الثمن باهظًا مقابل مبادئهم.

من بيروت إلى بلجراد، ومن العواصم العربية إلى شوارع تشيلي، تجتمع هذه القصص في خيط مشترك الفئات المهمشة، المستضعفون، ضحايا الحروب والصراعات الاجتماعية، أولئك الذين بالكاد يُسمع صوتهم في الحياة، لكن السينما حاولت أن تمنحهم صوتًا فهل يسمعهم أحد؟!