عمرو منير دهب: ليس واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة

حتى إذا كان بالإمكان الإشارة إلى عامل رئيس بعينه على سبيل الترجيح، لا يمكن ردّ شهرة المتنبي منقطعة النظير إلى سبب واحد أو بضعة أسباب فحسب، بل هي جملة من الأسباب المتداخلة والمعقدة؛ وهذا مما ينطبق على كل حالة شهرة لا على المتنبي وحده.

أفضنا في الحديث عن مراوغة أسرار الشهرة وأسبابها في "لوغاريتمات الشهرة"؛ فعلى سبيل المثال تحت عنوان "لا خلطة سرية" رأينا في تناول مكوّنات/مقادير خلطة الشهرة السريّة أنه: "في كل الأحوال تظل خلطة الشهرة خاصة جداً بكل قصة على حدة أكثر من كونها سرّيّة، بل نادراً ما تكون الخلطة سرية أصلاً، وحتى إذا كانت كذلك – كما هو الحال في المقصود حرفياً بالخلطة مع دجاج كنتاكي الشهير – فإن قصة النجاح الكاسح لا تكون مرتبطة بسرّيّة الخلطة قدرَ ما تبدو مرتبطة بعوامل أخرى كالتسويق والترويج الفريدين على نحو ما أشرنا. الشهرة خلطتها خاصة وفريدة، والأهم أنها تبقى دوماً مغرية بالتحليل والتفسير وباعثة على الإلهام والاقتداء، ولكن دون أية ضمانات مسبّقة بالنجاح في تحقيق أي قدر من الشهرة".

ذلك عن استحالة الحصول على سرّ خلطة الشهرة المؤكّدة لمن يطمح إليها مستقبلاً، أمّا عن استحالة التنبّؤ بالشهرة واستحالة تحليل أسبابها باعتبارها مسألة منطقية قطعية التحقّق في ظروف بعينها، فنقرأ بالعودة إلى مقدمة الكتاب تحت عنوان "اللوغاريتمات أسهل في الغالب" ما يلي: "ليس من السهل إذن التنبّؤ بمن سيغدو مشهوراً أو أيّ الأعمال سينال حظوة على حساب غيره، بحيث يغدو الإنجاز (الوحيد؟) الذي يمكن للباحثين في أسباب الشهرة أن يجزموا به مزهوّين هو التبرّع بفيض من الإجابات لأسئلة متعلقة بحالة من الشهرة تحققت بالفعل لا بحالة يُرجى لها أن تتحقق مستقبلاً".

ولكن العملاق عبّاس العقّاد يرى في مقال "شهرة المتنبي" ضمن كتابه "مطالعات في الكتب والحياة" أن السبب "الأقوى" لشهرة شاعرنا العظيم هو الحسد: "ولأمر ما لقي الرجل هذا الحظ من الشهرة الواسعة التي لا مثيل لها فما هو هذا الأمر؟ ألأنه شاعر عظيم؟! لا شك عندنا في عظمته الشعرية، ولكن كم من شاعر عظيم غيره عاش ومات ولم يشعر به أحد ولم يزل خامل الذكر مغمور الشعر حتى قيضت له الأيام من ينصفه وينبه الناس إلى مكانه، وكم من شويعر حقير ذاعت له شهرة لم يصبها معاصروه ممن هم أجود منه شعراً وأرفع في الأدب مقاماً، ثم نسيها الناس فواراها الخمول ودفنها في قبر لا نشور منه؛ فالعظمة سبب من أسباب شهرة المتنبي وسيرورة كلامه بلا ريب، ولكنها ليست بالسبب الأول الأقوى، ولا هي مما ينيل الشهرة في كل حال، ولا بد من سبب آخر هو السبب الأقوى والمنبه الأكبر إلى جدارة تلك العظمة ورجاحة ذلك الشعر فما هو؟

أهو الحسد الذي جنى على الرجل وأجناه؟

نعم هو الحسد ناشر كل فضيلة مطوية كما قال أبو تمام في بيتيه الصادقين البليغين اللذين سارا على كل لسان، هو ناشر فضيلة المتنبي ومفشي ما في قريحته من طيب بما أشعل فيها من نار، هو المحنة التي عرفها المتنبي فشكاها مر الشكوى والنعمة التي لم يعرفها ففاته أن يشكرها ويشيد بفضلها".

غير أن العقاد لا يلبث في خاتمة مقاله التالي من الكتاب نفسه تحت عنوان "شهرة المتنبي: حدّ الشاعر العظيم" أن يُجمِل الأسباب التي أفضت إلى شهرة المتنبي كما يلي: " فاعتداد المتنبي بنفسه، وظهور شخصيته وقوة طبعه، وكثرة تجاربه، وحاجة الناس إلى الاستشهاد بأمثاله وحكمه في عصره، وتنافس الأمراء على اشتراء مدحه وكثرة حساده، هذه هي الخصائص التي انفرد بجمعها المتنبي، فأشاعت ذكره وحفظت شعره وأنالته من المكانة في أدب العرب ما لم ينله شاعر سواه".

ما ذكره المفكر العملاق معقول، ولكن كل تلك الأسباب قد تجتمع لدى شاعر آخر فلا تحقّق له ما تحقّق للمتنبي من الشهرة. ويطيب لي هنا الرجوع مجدداً إلى "لوغاريتمات الشهرة" للتذكير بأن الشهرة ليست كمّاً فقط وإنّما هي ممّا يتعلّق بالنوع أساساً؛ تحت عنوان "أنواع الشهرة" نقرأ: "الأغلب أن كل مبدع، بل كل إنسان، يحلم في بداياته بالشهرة وهو يضع نموذجاً من المشاهير يحتذيه إنْ مع سبق الترصّد أو لاشعورياً. والأرجح أن ذلك النموذج يظل عرضة للتغيّر مع تقدّم الإنسان في العمر أو مع تطوّر تجربته الإبداعية أو عبر تجارب الحياة بصفة عامة. وعندما تتحقق الشهرة لأيِّ من الناس فإنها قد تكون مشابهة لنموذج كان يحلم به، وقد يفاجأ المبدع بأنه أكثر شبهاً بما لم يطرأ على باله من نماذج المبدعين المشهورين. أما الحظ الأجمل لا ريب فهو أن يحظى المبدع بما لا مثيل له من نماذج الشهرة الباعثة بدورها لاحقاً على إلهام المزيد من الطامحين إلى الشهرة على نمط فريد".

وقد أشرنا في الكتاب نفسه إلى أن الشهرة تبدو موهبة في ذاتها، وذلك بموازاة الموهبة التي يتطلّع المبدع أو أي إنسان إلى أن يكون مشهوراً عبرها؛ وقد يحقّق البعض الشهرة بلا موهبة سوى الشهرة ذاتها، أي القدرة على اجتذاب الأضواء وسرقة الكاميرا: "هكذا، تبدو الشهرة كما لو كانت عملاً يتطلب موهبة منفصلة بالضرورة، وذلك دون أن ننسى أثر الحظ الهام على هذا الصعيد، فمشاهير الأثرياء ليسوا هم الأعلى ضمن قائمة أثرى الأثرياء بالضرورة، وإنما هم الذين أرادوا أن يكونوا مشاهير وامتلكوا ما يكفي من الموهبة لإبقاء الهالة مسلّطة عليهم بقدر أو آخر، ومجدداً دون أن ننسى أثر الحظ وأحياناً طبيعة مجال الثراء ومداه مما يفرض الشهرة أحياناً فرضاً على صاحبها. تبقى القدرة على جذب الأضواء واسترعاء الانتباه إلى حدّ الشهرة – في أي مجال وليس عالم المال وحده - موهبة إذن، وذلك بعيداً عن الحساب الأخلاقي لذلك الصنيع بحسب مرجعيات كل مجتمع في هذا العصر وذاك".

في ضوء كل ما سبق، والأهم بأخذ ما نعرف من طباع شاعرنا العظيم وتفاصيل تراجيديا/كوميديا حياته الحافلة، يمكن إيراد ما يلي على صعيد تقصّي أسباب شهرة المتنبّي: البراعة الفنيّة/الشاعرية الفريدة، الصياغة الرائعة للحِكَم والأمثال، الطموح الجامح، السعي المتواصل والمثابرة لتحقيق الطموح/الحلم، الثقة التي لا تعرف التردّد في أي مقام، الاعتداد غير المنطقي بالذات، الجمع بين تناقضات النفس البشرية في أقصى صورها والإفصاح عن ذلك بلا خجل، التعبير الجريء عن أعماق النفس البشرية والحديث بلسان كل قارئ عمّا يتحرّج من البوح به، تجاهل السعي إلى مجد الشعر والانشغال التام بالسعي إلى مجد السلطة، الاعتبار بتجربة ادّعاء النبوّة الفاشلة وتحاشي التوغّل في لعبة السياسة والدين، اللعب لصالح الذات وحدها في مغامرات المدح والفخر والهجاء بذرائعية بالغة الجرأة، وغير ذلك بما يحتمل أضعاف ما ورد من الأسباب انتهاءً إلى السبب الجوهري إذا كان لا بدّ من تحديد سبب جوهري بعينه: موهبة الشهرة.

للتواصل مع الكاتب: ([email protected])