نرمين جودة تكتب: العلاج بالموسيقى بين العلم والخرافة

انتشر فى الآونة الأخيرة الحديث عن العلاج بالفن بصفة عامة والعلاج بالموسيقى بصفة خاصة، ووسط حالة من الانبهار امتزج الدجل والخرافة بالحقيقة العلمية، حتى باتت علمنة الموضوع إشكالية عويصة احيانا،ً الامر الذي دفع فضولى المعرفى للبحث حول ملابساته في محاولة للوقوف على حقيقته، خاصة وأن الموسيقى عرفت بأنها لغة الانفعالات والعواطف وبقدرتها في التأثير على المشاعر والأحاسيس والانفعالات بشتى أشكالها الفرح والحزن، فالموسيقى الهادئة تدفع إلى الراحة والهدوء والاسترخاء والتأمل، أما الموسيقى العنيفة تدفع إلى الحماس والثورة، لذا؛ ادعوكم اعزائي القراء لمشاركتى نتائج رحلة البحث التي استغرقت فترة ليست بقصيرة من البحث.

بادئ ذى بدء دعونا نبحث فى تاريخ الفن لنتعرف على الجذور التاريخية للعلاج بالموسيقى، كانت بداية معرفة الانسان بالموسيقى مع بداية الخلق، حيث تعامل الإنسان البدائي مع الموسيقى والرقص كجزء من طقوسه الدينية تارة لإرضاء الآلهة وتجنب غضبهم، وكطقوس سحرية لمواجهة أخطار الطبيعة والتصدى لشرورها، كما أن الشامان وهو الطبيب الكاهن في العصور البدائية كان يوظف الموسيقى للعلاج باعتبار أن الأمراض صنيعة الأرواح الشريرة، وبالتالى فطرد هذه الأرواح بواسطة الموسيقى إحدى الطرق الهامة في العلاج، ومع ظهور الحضارات القديمة؛ استخدمت الموسيقى في المعابد كطقس ديني وعلاج روحاني يجيده الكهنة، ففى الحضارة المصرية القديمة استخدم العلاج بالموسيقى في معبد ابيدوس وهو أكبر مراكز الطب في العصور القديمة، وقد كان الكهنة يعالجون فيه الامراض بالتراتيل المنغمة باعتبار أن الموسيقى تقرب المرضى من الآلهة وتسترضيهم ومن ثم تمن على المريض بالشفاء، ولذلك كانت هناك فرق موسيقية خاصة تصاحب المنشدين والراقصين تدق أوتارهم وإيقاعاتهم بجوار المريض، وكان يتم تحديد النغمة حسب الحالة المرضية.

بعد دخول الإغريق لمصر تعلموا الكثير من العلوم والفنون المصرية، فحسب أفلاطون؛يعود الفضل إلى المصريين القدماء في تعلم الإغريق للفنون والعلوم، لذا؛ كان بديهيا أن ينتقل العلاج بالموسيقى إلى الإغريق، حيث ذكروا في أساطيرهم عن علاج اوديوس المجروح الذي تم إيقاف نزيف جرحه بواسطة الغناء والموسيقى، حيث يرى الإغريق أن النغمات تحتوى على قدرات سحرية تشفى أخطر الأمراض، وهنا تجدر الإشارة إلى نصيحة أفلاطون؛ بتوخى الحذر عند استعمال الموسيقى في تربية النشء وفي علاج النفوس، مع تأكيد أفلاطون على أهميتها في التربية إلى جانب التربية الرياضية في بناء الفرد، كذلك أشار فيثاغورث إلى أن الموسيقى يمكن أن تداوى جنون الناس، وتساهم بشكل جدى فى الحفاظ على الصحة عند استخدامها بالطريقة الصحيحة

أما أبو قراط أكبر أطباء عصره وصاحب قسم الطبيب الذي يقسمه الأطباء إلى يومنا هذا فيقول إن كل مريض يحتاج إلى نوع من الموسيقى حسب حالته، فإذا اختيرت موسيقى غير مناسبة للحالة المرضية ستسبب آثاراً كارثية.

في الحضارة القبطية كان للموسيقى دور كبير في علاج كثير من الأمراض منها الصرع، وتوجد كثير من البرديات كتب عليها باللغة القبطية منذ القرن الثالث إرشادات كثيرة في النواحي الطبية تشبه ما كان في العصر الفرعوني، وبعض هذه الإرشادات تفيد بأن الترتيل اليومي للمزامير يفيد في شفاء المرض، وقد أطلق الأقباط في مصر على العلاج بواسطة ترتيل المزامير داخل الكنيسة اسم العلاج المقدس

وفى القرون الوسطى أهتم الأطباء العرب بالموسيقى مثل الفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا، وقد أدرك الكندي العلاقة بين الألحان والأنغام، وبين مراكز الإدراك في الدماغ، وقد ألف العديد من الكتب عن الموسيقى، واهتم بتأثيرها في الإنسان من ناحية تأثيرها على الصحة والعلاج، كما أوصى المصابين بالصمت والانطواء بالعزف على العود

أما فى عصر النهضة الأوروبي؛ فأوصى بيكون باستعمال الموسيقى لعلاج الإضطرابات الشخصية، وظل العلاج بالموسيقى يستخدم كعلاج عام لتهدئة المرضى وللمحافظة على الحالة المعنوية، وبدأ التحول في التعامل مع المرضى العقليين على أنهم بشر وليسوا حيوانات، في القرن التاسع عشر؛ اهتم الأطباء النفسيين بالعلاج بالموسيقى وفي مقدمتهم موريخ، وبدأت الدراسات العلمية والعملية لمعرفة مدى تأثير الموسيقى على الإنسان.

فى القرن العشرين؛ بدأ استخدام الموسيقى بشكل أكثر تخصصا فظهرت مصطلحات من قبيل العلاج بالفن، والعلاج الابتكاري أو الخلاق، والعلاج بالموسيقى، حيث يعد هانس هو أول من وضع فكرة دراسة الموسيقى والطب، وانشأت جامعة ولاية ميتشجان أول منهج وضع خصيصا لتدريب معالجين موسيقيين، وفي عام ١٩٥٠ تأسس الاتحاد الوطني للعلاج بالموسيقى في أمريكا

لقد اهتم العديد من العلماء المتخصصين بدراسة تأثير الموسيقى على الإنسان، حيث يذهب جاستون إلى أن للموسيقى تأثيرا ايجابيا على المضطربين سلوكيا من حيث اجتذابهم تجاه أنماط أفضل من السلوك، كما أشار دكتور سيد شحاته في كتابه علم الجمال الموسيقى إلى أن العمل الفني لا يحقق الأهداف بذاته في العالم الفعلي بل يثير الانفعالات التي تقترن بتلك الأهداف، كما أشار إلى كون العمل الفني هو تعبير عن انفعال الفنان، كذلك أشار دكتور ايهاب صبري في كتابه الموسيقى بين الفن والفكر إلى أن للأدب، والرسم، والمسرح، والسينما، والإذاعة، والتلفزيون، والصحافة، لهم تأثير كبير في نفس الإنسان ووعيه بشكل عام، غير أن الموسيقى والغناء هما الأكثر تأثيرا بل وتغلغل في أعماق النفس والوعي البشري، وهما قوتان محركتان أما نحو الأعلى أو نحو الهدم، وإن للموسيقى والغناء اثرهما الكبير الفعال، ورب أغنيات تصلح مجتمعا أو تحرر بلدا أو تذهب مرضا أو ترفع ظلامة وغير ذلك، إذ أن الموسيقى أعمق مصادر اللاشعور، كونها تستطيع أن تثير الوجدان بطريق مباشر، وأخيرا أشار إلى أن تنمية الذوق الموسيقي من أهم الوسائل التي تحقق التربية الجمالية، والتي تؤثر على تعلم المواد الأخرى، فهي تساهم في تحقيق النمو المتكامل للطفل والمراهق والبالغ. على حد سواء.

الحقيقة؛ لم يكن الاهتمام بالموسيقى كوسيلة للتربية والتعليم بأمر جديد، إذ أن ارسطوطاليس قد أشار إلى أن التربية تتكون من أربعة أجزاء متميزة هى الآداب، والرياضة، والموسيقى، والرسم، فالموسيقى وسيلة كريمة لملء وقت الفراغ وبنفس الوقت هي استراحة خليقة بالرجل، أما موزى وهو شاعر كان يعيش قبل ارسطو بأربعة قرون أو خمسة مؤلف قصيدة هيرو وليندر فقد قال بإن الغناء هو اللذة الحقة للحياة، أشار أرسطو فى كتابه السياسة إلى أن تنوع الألحان قد يؤدى بالضرورة إلى تغير الانفعالات معها، فاللحن الشجى تحزن له النفس وتنقبض معه الروح، وهناك ألحان أخرى ترقق القلب، ومابين اللحن الشجى الحزين ولحن يرقق القلب هناك لحن آخر يؤتى النفس سكونا تاما، أما ضروب الإيقاع؛ فإنها لا تقل تغايرا عن الألحان بعضها يسكن النفس وبعضها يثيرها، وبناءا عليه؛ فإن التأثير القوي للموسيقى يجعلها أهلا لإدخالها في التربية والعلاج السلوكي.

بناء على ما سبق؛ يمكن أن نستخلص نتيجة مفادها أن للموسيقى تأثير على المخ وبالتالي؛ فإنها تؤثر على باقي التراكيب الجسمانية، كذلك تؤثر الموسيقى على الوظائف الإدراكية والانفعالية العاطفية والطبيعية للمرء، وكذلك تؤثر على قدراته بصورة عامة، لذلك؛ يمكن القول بأن العلاج بالموسيقى يمكن أن يوظف لزيادة اللغة التعبيرية باستخدام العلاج بالترانيم الملحنة أو بالأساليب التقنية للغناء، فإذا كان الشخص مصاب بالاحباط فالموسيقى تساعده على التخلص من هذه الحالة، مثلما هو الحال في الأزمات، والكوارث، والحروب، ويمكن توظيف واستخدام المعالجة الموسيقية للمساعدة في التعبير العاطفي باستخدام التخيل أو التعبير الموسيقي اللاشفوي غير المعتمد على الألفاظ أو الكلام، فبعض أنواع الموسيقى تمدنا بفوائد نفسية وفوائد فسيولوجية، حيث يقول جون ارمسترونج أن الموسيقى تعلي وتمجد كل متعة، وتهدئ وتسكن كل حزن، وتنفث من حدة الأمراض، وتخفف وتلن كل ألم وتقهر أثر السم والكارثة، وأخيراً ؛ فإن الموسيقى تمدنا بالقوة التي تساعدنا في مواجهة الأزمات، وترقق القلوب لتسمو بحياتنا، وتحول الإحباط إلى حماس نهزم به ضعفنا.

المراجع

خيري ابراهيم الملط، الموسيقى والمجتمع عند المصريين القدماء، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى ، ٢٠١٧

ايهاب صبري، الموسيقى بين الفن والفكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، ٢٠٢٠

ارسطوطاليس، السياسة، ترجمة احمد لطفي السيد، الدار القومية للطباعة والنشر، العدد ٢ ، ب ت
ناهد عبد الحميد، الأغنية الوطنية البدايات التحولات، المجلس الأعلى للثقافة، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، الطبعة الأولى، ٢٠١٦

نرشح لك:  متحديا وهم الفضائيين.. كيف أثبت "مستر بيست" أن المصريين هم بناة الأهرامات؟