عمرو منير دهب يكتب: براعة المتنبي في معايبه

سنكتفي ممّا أورده أبو منصور الثعالبي عن ما للمتنبي وما عليه في "يتيمة الدهر" بالمعايب، وذلك بالنظر إلى ما يقتضيه مقامنا هذا؛ والثعالبي الذي يبدو منصفاً من العنوان الذي تناول تحته الشاعر العظيم (أبو الطيب المتنبي وما له وما عليه) يأخذ على المتنبي ثماني عشرة من المعايب هي إجمالاً مما شاع عن الشاعر الكبير وأخذه عليه النقّاد. نورد فيما يلي تلك المعايب مع أنموذج أو اثنين أو ثلاثة على الأكثر لكلٍّ منها مما ساقه الثعالبي، لنرى بعدها أثر تلك المعايب/المقابح ومثلها على شاعرنا وسيرته.

نرشح لك: عمرو منير دهب: ليس واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة

قبح المطالع:

مثل:

كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا ** وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا

أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ ** لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَنادِي

إتباع الفقرة الغرّاء بالكلمة العوراء:

كقوله:

كَيفَ تَرثي الَّتي تَرى كُلَّ جَفنٍ ** راءَها غَيرَ جَفنِها غَيرَ راقِ

بعد قوله:

أَتُراها لِكَثرَةِ العُشّاقِ ** تَحسَبُ الدَمعَ خِلقَةً في المَآقي

وكقوله:

لو طابَ مَولِدُ كُلِّ حَيٍّ مِثلَهُ ** وَلَدَ النِساءُ وَما لَهُنَّ قَوابِلُ

جَفَخَت وَهُم لا يَجفَخونَ بِها بِهِم ** شِيَمٌ عَلى الحَسَبِ الأَغَرِّ دَلائِلُ

بعد المقدمة الغزلية الشهيرة:

لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ ** أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ

وكقوله:

لَوَ اِستَطَعتُ رَكِبتُ الناسَ كُلَّهُمُ ** إِلى سَعيدِ بنِ عَبدِ اللَهِ بُعرانا

بعد المقدمة الشهيرة أيضاً:

قَد عَلَّمَ البَينُ مِنّا البَينَ أَجفانا ** تَدمى وَأَلَّفَ في ذا القَلبِ أَحزانا

أَمَّلتُ ساعَةَ ساروا كَشفَ مِعصَمِها ** لِيَلبَثَ الحَيُّ دونَ السَيرِ حَيرانا

استكراه اللفظ وتعقيد المعنى:

مثل:

لَو لَم تَكُن مِن ذا الوَرى الَّذ مِنكَ هو ** عَقِمَت بِمَولِدِ نَسلِها حَوّاءُ

عسف اللغة والإعراب:

كقوله "ترنج" والمعروف "أترج":

شَديدُ البُعدِ مِن شُربِ الشمولِ ** تُرُنجُ الهِندِ أَو طَلعُ النَخيلِ

وكوصله الضمير بـ"إلا" في قوله "إلّاك" والأولى أن يفصله:

لَيسَ إِلّاكَ يا عَلِيُّ هُمامٌ ** سَيفُهُ دونَ عِرضِهِ مَسلولُ

الخروج عن الوزن:

كما في قوله:

تَفَكُّرُهُ عِلمٌ وَمَنطِقُهُ حُكمٌ ** وَباطِنُهُ دينٌ وَظاهِرُهُ ظَرفُ

وإذا كان الثعالبي يأخذ عليه ذلك – ويستشهد برأي الصاحب بن عباد - لأنه لم يرد عن العرب مفاعيلن في عروض الطويل غير مصرع، فإنه على كل حال يورد تحت هذا المأخذ مثالين نادرين لا غير.

استعمال الغريب الوحشي:

مثل "ابتشاكا" في قوله:

وَما أَرضى لِمُقلَتِهِ بِحُلمٍ ** إِذا اِنتَبَهَت تَوَهَّمَهُ اِبتِشاكا

و"كنهورا" في قوله:

وَتَرى الفَضيلَةَ لا تَرُدُّ فَضيلَةً ** الشَمسَ تُشرِقُ وَالسَحابَ كَنَهوَرا

الركاكة والسفسفة بألفاظ العامة والسوقة ومعانيهم:

يورد الثعالبي هنا أمثلة عديدة، ولعل الأشهر والأبلغ دلالة على هذا المأخذ تجسّده القصيدة الشهيرة:

ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه ** وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه

إبعاد الاستعارة والخروج بها عن حدّها:

مثل:

مَسَرَّةٌ في قُلوبِ الطيبِ مَفرِقُها ** وَحَسرَةٌ في قُلوبِ البَيضِ وَاليَلَبِ

الاستكثار من قول ذا:

مثل:

أَفي كُلِّ يَومٍ ذا الدُمُستُقُ مُقدِمٌ ** قَفاهُ عَلى الإِقدامِ لِلوَجهِ لائِمُ

ورغم أن الثعالبي يورد عشرة أمثلة تحت هذا العنوان، فإنه ينبّه إلى أن ما يمكن أن يكون في الديوان أضعاف ذلك؛ والانتباه إلى هذا المأخذ لا يخلو من وجاهة لكنه من المآخذ التي يبدو نادراً الوقوفُ عند مثلها بصفة عامة على كل حال.

الإفراط في المبالغة والخروج (فيه) إلى الإحالة:

كقوله:

وَضاقَتِ الأَرضُ حَتّى كانَ هارِبُهُم ** إِذا رَأى غَيرَ شَيءٍ ظَنَّهُ رَجُلا

تكرير اللفظ في البيت الواحد من غير تحسين:

كقوله:

وَمِن جاهِلٍ بي وَهوَ يَجهَلُ جَهلَهُ ** وَيَجهَلُ عِلمي أَنَّهُ بِيَ جاهِلُ

وقوله:

وَما أَنا وَحدي قُلتُ ذا الشِعرَ كُلَّهُ ** وَلَكِن لِشِعري فيكَ مِن نَفسِهِ شِعرُ

وقوله:

العارِضُ الهَتِنُ اِبنُ العارِضِ الهَتِنِ اِب**نِ العارِضِ الهَتِنِ اِبنِ العارِضِ الهَتِنِ

وليس خافياً أن كثيرين يرون في البيت الأخير هذا حُسن تقسيم.

إساءة الأدب بالأدب:

مثل:

يَعلَمنَ حينَ تُحَيّا حُسنَ مَبسِمِها ** وَلَيسَ يَعلَمُ إِلّا اللَهُ بِالشَنَبِ

ومثل:

صَلاةُ اللَهِ خالِقِنا حَنوطٌ ** عَلى الوَجهِ المُكَفَّنِ بِالجَمالِ

الإيضاح عن ضعف العقيدة ورقة الدين:

وهنا يثبت الثعالبي التحفّظ "الفنّي" التالي: "على أن الديانة ليست عياراً على الشعراء، ولا سوء الاعتقاد سبباً لتأخير الشاعر"؛ لكن ذلك لم يمنعه من الاستطراد في ذكر الأمثلة على هذا الصعيد من قبيل:

يَتَرَشَّفنَ مِن فَمي رَشَفاتٍ ** هُنَّ فيهِ أَحلى مِنَ التَوحيدِ

ومثل:

لَو كانَ عِلمُكَ بِالإِلَهِ مُقَسَّماً ** في الناسِ ما بَعَثَ الإِلَهُ رَسولا

لَو كانَ لَفظُكَ فيهِمِ ما أَنزَلَ ال ** قُرآنَ وَالتَوراةَ وَالإِنجيلا

ومثل:

وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الـــــلـــه وَما لَم يَخلُقِ

مُحتَقَرٌ في هِمَّتي ** كَشَعرَةٍ في مَفرِقي

الغلط بوضع الكلام في غير موضعه:

كقوله:

أَغارُ مِنَ الزُجاجَةِ وَهيَ تَجري ** عَلى شَفَةِ الأَميرِ أَبي الحُسَينِ

امتثال ألفاظ المتصوفة:

والثعالبي لا يورد هذا المأخذ على أساس ديني مطلق وإنما من ناحية "استعمال كلماتهم (المتصوفة) المعقدة ومعانيهم المغلقة".

كقوله:

إِذا ما الكَأسُ أَرعَشَتِ اليَدَينِ ** صَحَوتُ فَلَم تَحُل بَيني وَبَيني

وقوله:

وَلَولا أَنَّني في غَيرِ نَومٍ ** لَكُنتُ أَظُنُّني مِنّي خَيالا

الخروج عن طريق الشعر إلى طريق الفلسفة:

مثل:

والأَسى قَبلَ فُرقَةِ الروحِ عَجزٌ ** وَالأَسى لا يَكونُ بَعدَ الفِراقِ

ومثل:

إِلفُ هَذا الهَواءِ أَوقَعَ في الأَنـ ** ـفُسِ أَنَّ الحِمامَ مُرُّ المَذاقِ

استكراه التخلص:

والثعالبي يورد عن القاضي (الجرجاني) مثلاً واحداً على التخلص المستكرَه لدى المتنبي هو قوله:

أُحِبُّكِ أَو يَقولوا جَرَّ نَملٌ ** ثَبيراً وَابنُ إِبراهيمَ ريعا

ويذكر بعده ثلاثة أمثلة أخرى يراها "إن لم تكن مستحسنة مختارة فليست بالمستهجن الساقط"، وبين تلك الأمثلة الثلاثة قوله التالي الذي لم يره هنا مستهجناً في حين عدّه مأخذاً في باب "إتباع الفقرة الغرّاء بالكلمة العوراء":

لَوَ اِستَطَعتُ رَكِبتُ الناسَ كُلَّهُمُ ** إِلى سَعيدِ ِبنِ عَبدِ اللَهِ بُعرانا

وأخيراً، قبح المقاطع:

مثل:

لَو لَم تَكُن مِن ذا الوَرى الّذ مِنكَ هو ** عَقِمَت بِمَولِدِ نَسلِها حَوّاءُ

تلك لمحات ممّا أخِذ على المتنبي من المعايب، وقفنا عليها بشيء من التفصيل في كتاب الثعالبي الشهير، الذي يأخذ بدوره عن غيره من الشعراء والعلماء والنقّاد، ممّن يشير إليهم جملةً بقوله "كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني"، كالصاحب بن عباد وأبي بكر الخوارزمي والقاضي (أبو الحسن الجرجاني)، وحتى ابن جنّي.

ومعلوم كما أشرنا مراراً أن ما كُتب في قدح شعر المتنبي كثير، ومثله ما كتب ضدّه شخصياً؛ فهل كان كل ذلك أو معظمه على الأقل افتراءً على الشاعر العظيم؟ لا بطبيعة الحال، فإذا كان بعض تلك العيوب مبالغاً فيه، فإن أكثرها واضح لا لبس فيه. ولكن مهما يكن، لن نقول فقط بأن الناس – من العامة والخاصة – أحبّت المتنبي رغم كل تلك المآخذ عليه، بل إنها في كثير من الأحيان أحبّته بسبب تلك المآخذ؛ فقد بدا تعمُّده الإتيانَ بوحشي الألفاظ وغريب المعاني تحدّياً فنّياً أراد أن يبزّ فيه أقرانَه من الشعراء ويستفزّ به مراقبيه من علماء اللغة والنقّاد، فأعجب ذلك كثيراً من عامة الناس وخاصّتهم وربما أذهلهم.

وكثيراً ما بدا لي المتنبي كما لو أنه كان يتخيّل نفسه في مسابقة ضمن "نادي الجدال/المناظرة" Debate Club، يضع له الآخرون – عمداً أو عفواً – سقوفاً من التحديات الفنية لغوياً ومعنوياً فيتجاوزها، بل يعمد هو أحياناً إلى وضع تلك التحديات بنفسه ويزهو بتجاوزها. وكما في أندية الجدال/المناظرات، فإن التحدّي يكمن في قبول أية فكرة وتبنّيها للدفاع عنها بغرض استعراض قدرات المحاجّة، وقد تُعرَض الفكرة ونقيضها في جلستين مختلفتين على المتباري نفسه ويُنظر في كيفية دفاعه كل مرة عمّا أسند إليه ممّا لا يؤمن به بالضرورة.

بذلك في الاعتبار، فإن المتنبي كان على الأرجح يتعمّد الولوج إلى كل قبيل من الصعوبات اللغوية والبلاغية والفكرية وغيرها ليثبت أنه أكبر من أن يقف أمامه صعب على أي صعيد في قول الشعر، وهو ابتداءً كان يرى نفسه أكبر من أن يقف أمامه كائن على أي صعيد على الإطلاق.

تلك "أوهام" المتنبي التي تشبّث بها كما لو كانت بالنسبة له مبادئ راسخة في الحياة لا تحدّيات عابرة؛ واللافت أنه لم يفلح في تحقيق نبوغه الاستثنائي فقط بجذب أنظار متابعيه إلى ما أبدعه بعيداً عن تلك الأوهام بل أيضاً بما أبدعه في متن تلك الأوهام/المبالغات/المعايب التي حازت في غير قليل من الأحيان إعجابَ ودهشة متابعيه؛ أو على الأقل عملت بوضوح على إبقاء هالات الجدال مسلّطة عليه على مرّ الزمان، تماماً كما أراد.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])