تعرّفت إلى محمد مستجاب أدبيّاً منتصفَ التسعينيات الماضية عبر الصفحات الثقافية في الجرائد والمجلات المصرية والعربية، وعبر تلك الموسومة حصرياً بالأدبية مثل "أخبار الأدب" التي ذاع صيتها ولمعت نجومها في تلك الحقبة وكانت صحبتُها أسبوعياً آنذاك حدثاً أدبياً جميلاً لم يَرُق لنفر من المثقفين على اعتبار أن المحتوى الأدبي هو الأولى بالاهتمام لا الأخبار التي تُعنى بالأدباء وما يصدر لهم من أعمال، فالأدب عند أولئك بدا أجلّ من أن تفُرَد له جريدة تهتم بقيله وقاله.
كانت "أخبار الأدب" حدثاً سرّني على كل حال، ووجدت فيها من محتوى الأدب ما لم يكن يقلّ عن أخباره؛ والأهم أن فكرة الأخبار الأدبية نفسها - التي كانت محور اعتراض المتحفظين من سدنة المعرفة الأدبية - بدت عظيمة الفائدة من حيث حثّها القارئَ على الولوج إلى المحتوى وليس الوقوف عند الخبر اكتفاءً بإشباع الفضول الإعلامي.
محمد مستجاب إذن كان أحد أجمل هدايا "أخبار الأدب" بالنسبة لي، وهي هدية متأخرة لا تقصيراً من الجريدة الصادرة حديثاً حينها وإنما تأخّراً منّي في إدراك قيمة الأديب الجليل الذي سبق ظهورُه ونبوغُه تلك الفترة بنحو عقدين. لا أشعر بالإنزعاج ولا ينتابني تأنيب ضمير عادة في مثل تلك الحالات، فالهدايا الأدبية والفكرية الثمينة عندما تأتي متأخرة نكون أشدّ تهيُّأً لإدراك قيمتها والاحتفاء بها أفضل مما لو أدركناها مع الناس في بواكير ظهورها وحمّى الاحتفال الجماعي بها في أوج استعارها. تلك هي رؤيتي لمثل هذه التجربة الفريدة التي حدثت لي مراراً ولا تزال، فالإدراك المتأخر للكنز الأدبي يمنحك الانطباع بأنه يخصك، أو على الأقل اكتشافه يخصك كما لو أنه عقيدة أدبية اعتنقتها عن قناعة لا على سبيل التقليد.
شدّني مستجاب بالإتقان والأصالة معاً؛ لست مستيقناً أيهما كان الأدعى إلى لفت انتباهي أولاً، ولعل مزيج الإتقان والأصالة هو اللافت بحيث لا ينفرد أيٌّ من العامِلَين دون الآخر بفضل التنويه إلى الأديب الفريد. أمّا السخرية فحدّث عنها ولا حرج؛ هي سخرية متقنة وأصيلة، وهي بعدُ – أو ربما ابتداءً – من أهم ما يميّز مستجاب ويشدّ معجبيه إلى أدبه وإليه هو شخصياً لا بصفته الاعتبارية كاتباً فحسب.
ذلك امتياز إنساني في الأساس قبل أن يكون امتيازاً أدبياً، فليس من شروط عظمة العمل الأدبي أن تكون شخصية مؤلفه مطابقة لما يشي به أسلوبُه من توقّعات قرّائه؛ ولكن ليس من السهل تجاوز المتعة التي يجدها القرّاء عندما يدركون أنّ كاتبهم الأثير إنما هو على نحو ما تطلّ به شخصّيته من خلال أسلوبه وعبر شخوص أعماله الذين يحكي على ألسنتهم قصصه ويبثّ رؤاه في الحياة على هذا الصعيد وذاك.
كانت العفوية من أبرز سمات مستجاب الشخصية بحيث تبرز في صُوَره التي تُلتقط له عفواً مع الأصدقاء من الأدباء وفي تلك التي يدفع بها عمداً إلى صحيفة لتضعها أعلى عموده الأسبوعي على حدّ سواء؛ بل إن تلقائيته سمة لم يكن في وسعه على ما كان يبدو التخلّص منها حتى في لقاءاته التلفزيونية المباشرة على ندرتها، والأرجح أنه لم تراوده أصلاً فكرة التبرّؤ من عفويته الساخرة في أي مقام مهما يكن جادّاً؛ ولعل حجّته في ذاك كانت مما يمكن إجماله في السؤال البسيط التالي الذي يُلقي بعبء الإثبات على المستنكِر: وما ضير العفوية الساخرة في أي مقام؟
ليس صعباً - كما يحب أن يُشيع ممثلو الكوميديا ونقّادها - أن تُضحك الآخرين قياساً بمهمة حملهم على البكاء، فالأمر منوط بالموهبة سواءٌ في الكتابة أو الأداء؛ وعليه فإن التحدّي يبدو هو إيّاه مع الإضحاك والإبكاء؛ فإذا كانت الموهبة – في الكتابة أو الأداء – أصيلة وعميقة لا تعود ثمة مشكلة مع ضمان تحقق الغرض من العمل الأدبي أو الفني وإيصال الرسالة على أكمل وجه ممكن إلى المتلقّي.
بذلك في الاعتبار، لن نقول بأن مستجاب أجاد في المهمة "الصعبة"، كونه ظلّ يُنظر إليه بوصفه كاتباً ساخراً (والسخرية في جزء أصيل منها تُعنى بالقدرة على الإضحاك)، وإنما أجاد مستجاب لأنه أساساً كاتب أصيل وعميق بصرف النظر عن الطبيعة الفنيّة للمهمة التي انصرف لها، وذلك دون تجاوز كونه ظلّ بالفعل ساخراً من طراز رفيع، يُضحكك ويترك في نفسك من الضحكة ما يستمر طويلاً وينطبع عميقاً فلا ينتهي أثرُه النفسي والأدبي بفراغك من العمل الذي بين يديك للكاتب الذي ظل طوال حياته - ولا يزال - نسيج وحده في سخريته التي كانت بمثابة نمط حياته المتصالح مع أسلوبه في الإبداع الأدبي إلى حدود داعية إلى الإعجاب وباعثة للإلهام.
للتواصل مع الكاتب: