عمرو منير دهب يكتب: أفضل قصيدة في التاريخ ليست للمتنبي

عند طرح سؤال عريض عن أفضل قصيدة في تاريخ الشعر العربي قد يجزم زاهدٌ بأنها قصيدة أبي العتاهية: أَذَلَّ الحِرصُ وَالطَمَعُ الرِقابا * وَقَد يَعفو الكَريمُ إِذا اِستَرابا، وربما يرجّح عاشقٌ ولهان قصيدة قيس بن الملوح: تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِيا * وَأَيّامَ لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا، وقد يذهب مغرمٌ بالهجاء إلى تفضيل دامغة جرير: أَقِلّي اللَومَ عاذِلَ وَالعِتابا * وَقولي إِن أَصَبتُ لَقَد أَصابا، أو يسارع مولعٌ بالنظرات الفلسفية إلى اصطفاء دالية أبي العلاء: غيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي * نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ، وقد يصرّ عاشق للمدائح النبوية على أنها ميميّة البوصيري: أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ * مزجتَ دمعاً جرى من مقلةٍ بدمِ، وربما يميل مُكتوٍ بلهيب الحنين إلى أنها سينية شوقي: اختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي * اذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي، أو يدُهَش مغرِقٌ في عشق القديم لتفضيل قصيدة على معلقة زهير: أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ * بِحَومانَةِ الدرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ، وربما يسارع عاشق للأندلسيات إلى اختيار موشح لسان الدين بن الخطيب: جادَكَ الغيْثُ إذا الغيْثُ هَمى * يا زَمانَ الوصْلِ بالأندَلُسِ، وقد يطمئنّ صوفيّ إلى أفضلية قصيدة ابن الفارض: قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي * روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ، وربما يقطع متحمس لأمجاد العرب القديمة في الحروب بأنها بائية أبي تمام: السَيفُ أَصدَقُ إنباءً مِنَ الكُتُبِ * في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ، وقد يميل ماجنٌ إلى انتخاب همزية أبي نواس: دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ * وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ، وربما يذهب مهووس بادّعاء ولع الفتيات به إلى أنها قصيدة عمر بن أبي ربيعة: هَيَّجَ القَلبَ مَغانٍ وَصَيَر * دارِساتٌ قَد عَلاهُنَّ الشَجَر، أو يُصرّ عاشق مناصر للمرأة عموماً لا لسيدة بعينها على أنها قصيدة نزار قباني: زيديني عشقاً زيديني، وقد يقول متحمّس مستمسك بالقومية العربية إنها قصيدة محمود درويش: سجّل أنا عربي، أو أمل دنقل: لا تصالح ولو منحوك الذهب.

نرشخ لك: عمرو منير دهب يكتب: براعة المتنبي في معايبه

تلك لمحة افتراضية عابرة – لكنها ليست خيالية بحال - عمّا يمكن أن يسفر عنه سؤالٌ يبدو بسيطاً عن أفضل قصيدة وليس أفضل ديوان أو أفضل شاعر. ولكن على غير ما يشي الظاهر، فإن السؤال المعقّد هو بالفعل ذاك الذي يبحث عن أفضل قصيدة وليس أفضل ديوان أو أفضل شاعر؛ أمّا السؤال الأشدّ تعقيداً بحيث يسفر عن أضعاف مضاعفة من الإجابات المتشاكسة بما يكاد يفضي إلى ما يشبه التشتّت الجمالي أو الفوضى النقدية – إلى حدّ اختلاف المرء مع ذاته عند معاودة التقييم - فهو ذلك المتعلق بانتقاء أفضل بيت شعر في تاريخ العرب.

صِغَر الوحدة موضوعِ الأفضلية الجمالية أو النقدية ليس إذن دليلاً على سهولة المهمة، بل الأرجح العكس كما رأينا؛ وإن تكن تلك ليست بالقاعدة في كل الأحوال. هذا، ولا يزال مجال المفاضلات الجمالية والنقدية حافلاً لا نقول بالاختلافات بل بالتناقضات في الأحكام أيضاً.

وبالعودة إلى السؤال عن أفضل قصيدة، فإن مدى التباين لا يتوقف عند ذلك الذي عرضنا له بجولة افتراضية عابرة بين متذوّقي الشعر العربي على وجه العموم، فطرْح السؤال على النخبة من الشعراء والأدباء والنقّاد سيفضي على الأرجح إلى مزيد من الخلاف والاشتباك، وستظهر مفاجآت أخرى في التفضيل وفي أسس التقييم من قبل.

مصطلح "شعراء الواحدة" – عل سبيل المثال – مما يمكن أن يقتحم مجال مفاضلاتنا هذا بقوة؛ وإذا كان المصطلح في دلالته المباشرة يشير إلى الشعراء الذين كتبوا قصيدة واحدة فقط أو اشتهروا بقصيدة واحدة، كابن زريق البغدادي وواحدته "لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ * قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ"، فإن دلالة المصطلح الأبعد والأخطر في مقامنا هذا يمكن التماسها فيما نُسب إلى ابن سلام من رأي حول طرفة بن العبد، فطرفة هو "أشعر الناس واحدةً" بالنسبة لصاحب "طبقات فحول الشعراء"، وواحدة طرفة التي جعلت ابن سلام يقدّمه حينها على الشعراء جميعاً - باعتبار مناط الحكم قصيدة واحدة - هي: لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ * تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ؛ فمعلّقة طرفة والحال كتلك هي أفضل قصيدة لدى إمام النقّاد العرب القدامى محمد بن سلام الجمحي.

والمسألة بذلك التوسّع في المعايير والتباين في الأذواق لدى العامة والخاصة على حدّ سواء، لن يكون غريباً أن تختفي أشعار المتنبي من قائمة قصيرة لقصائد مرشحة لجائزة نخبوية أو جماهيرية من هذا القبيل أو ذاك؛ وفي الوقت نفسه سيكون منطقياً بطبيعة الحال أن تظهر أشعار المتنبي على أية قائمة تعنى بالقصيدة العربية الفضلى وأن تتصدّرها، فمتذوّقو الشعر والنقّاد عادة عندما يواجهون سؤال القصيدة الفضلى يسارعون إلى ديوان من يرونه الشاعر الأفضل للاختيار من بين قصائده؛ فإذا كان ديوان الشعر العربي لا يعدم قصائد فريدة وأبيات شاردة تتنافس بقوّة على لقب أفضل قصيدة وأفضل بيت لشعراء من الطبقة الثانية وما دونها، وحتى لشعراء الواحدة كما رأينا، فإن "أفضل ديوان/أفضل شاعر" في تاريخ العرب مسابقة من الصعب ألّا يأتي المتنبي وديوانه في صدارة قائمة المرشحين لها على النطاقين النخبوي والشعبي في عالمنا العربي الفسيح على امتداد حقبه الأدبية.