شخصية الممثل في الواقع ليست بطبيعة الحال تلك التي تطلّ عبر أعماله؛ ولكنْ على اختلاف أدوار الفنان تنطبع في أذهان الجماهير عفويّاً صورةٌ يخالونها تجسّد شخصية فنّانهم في حياته الخاصة، صورة قد تكون متأثرة بمجمل ما يجسّده من أعمال إذا كان الفنان ممّن لا يرون بأساً بالانصراف إلى أدوار بعينها دون أخرى، وقد تكون الصورة هي ما يشي به أداءُ الممثل مجملاً عبر أدواره وإنْ اختلف بعضُها إلى حدّ التضادّ.
تباينت أدوار عبد المنعم مدبولي عبر مشواره لأكثر من خمسين عاماً مع الفن، لكنه تباين لم يربك عشاقه بحال؛ فقد استقرّ مدبولي في وجدان جماهيره إبّان شبابه في صورة الساخر المرح المحبوب مهما يبلغ في سخريته من العبث، ثم انضافت إلى سخريته ومرحه عندما كبر مسحةٌ عميقة من الودّ قذفت به في قلوب الأجيال الجديدة من جماهيره مستقِرّاً فيها بوصفه أباً وجدّاً تكاد صورتُه تطابق صور آبائهم وجدودهم الذين يحيطونهم كل يوم ودّاً وابتساماً؛ أمّا مجايلوه من قدامى الجماهير فقد رأوا فيه صورتهم التي آلوا إليها بعد كرّ السنين كأجمل ما يحبون أن تكون عليه تلك الصورة في الأذهان والوجدان.
شارك مدبولي في الأعمال التلفزيونية بُعَيد انطلاقة التلفزيون المصري عبر ما عُرف بفِرَق مسرح التلفزيون، وكان قبلها بنحو عشر سنوات قد دشّن مشواره الفني مسرحيّاً وإذاعيّاً أوائل الخمسينيات الماضية، متألقاً منذ البدايات الإذاعية في "ساعة لقلبك" مع حشد ممن سيصبحون لاحقاً نجوماً لامعة في سماوات التأليف والتمثيل، أبرزهم رفيق دربه اللدود فؤاد المهندس؛ كما تألق مدبولي قائداً مسرحياً منذ البدايات مع فرقة أسّسها تحمل اسم "المسرح الحر"، لتتوالى بعدها فِرقُه وأعماله المسرحية عبر السنوات والعقود.
"أبنائي الأعزاء شكراً" و"لا يا ابنتي العزيزة"، أواخر السبعينيات الماضية، شكّلا علامته التلفزيونية الفارقة مع منتصف مسيرته الفنية تقريباً، وهما ما ساعدا على ترسيخ صورة الأب الودود العطوف والمستحق للتعاطف في الوقت نفسه، ليمتد بعدها عبر الأعمال التلفزيونية تأثيرُه الأبوي الفريد حتى أواخر حياته؛ وإن تكن صورة الأب/الجد الرؤوم ذي اللمحات الذكية الساخرة قد بدأت تتشكّل بقوة سينمائيّاً قبلها بنحو خمسة أعوام مع فيلم "الحفيد" الذي غدا من أبرز كلاسيكيات السينما المصرية.
وفي سياق النفاذ إلى قلوب الأبناء والأحفاد، غنّى مدبولي للأطفال في ثنايا أعماله الدرامية بما استقرّ بعضُه في قلوب الصغار أروع مما حظيت به أعمال مطربين محترفين اجتهدوا في خَطْب ودّ الأطفال بمجموعات غنائية مخصّصة لهم، فبدا واضحاً أن الأطفال قد لمسوا في أداء مدبولي أصوات آبائهم وجدودهم وأحاسيسهم الصادقة ولم ينشغلوا بفنيّات الأداء الموسيقي فحسب.
تعدّدت مواهب مدبولي؛ فهو، وإنْ ذاع صيته ممثلاً متمكّناً ذا حظوة بالغة الخصوصية في قلوب الجماهير، أجاد بموازاة عمله في التمثيل التأليفَ والإخراجَ، بل وتأسيس الفِرَق الفنية وإدارتها أيضاً. وفي هذا، من الواضح أن مواهبه المتعددة كانت متعاضدة لا متناحرة، بما أفضى إلى ترسيخ شخصيته وإنجازاته الفنية الفريدة، فكثيراً ما تكون المواهب المتعددة خصماً على صاحبها بحيث تشتّت تركيزه وتبعثر إنجازه فلا يبرز في أيٍّ من مجالات مواهبه المتعددة بما يكفل له البقاء الراسخ والحظوة المتميزة في قلوب الجماهير.
وإذا اتّسم أداء مدبولي بقدر أوفر من الحركة والحيوية في بداياته بما لا يُعدّ أمراً مستغرباً مع طبيعة الشباب، وفي الوقت نفسه بالنظر إلى مقتضيات الأداء التمثيلي حينها؛ فإن أداء مدبولي قد مال إلى الاقتصاد في الانفعال الحركي لحساب العمق التعبيري لاحقاً. لكن اللافت - على صعيد هذه المقارنة في طبيعة الأداء التمثيلي بين زمانين لدى الممثل نفسه - أن مدبولي عندما اضطرته طبيعة العمل الدرامي إلى العودة إلى أداء متّقد من حيث الحركة والانفعال الحسي وهو في الستين من عمره لم يبخل بذلك، بل بذله ممزوجاً بإحساس وحماس مسرحياته وأفلامه التي تألق عبرها قبل عقدين أو ثلاثة عقود وهو في حموة شبابه الفنّي.
نرشح لك: بعد سقوط بشار الأسد.. انطلاق تصوير المسلسل السوري "قيصر"
مدبولي من فئة نادرة من النجوم من الصعب أن يتبادر إلى أذهان جماهيرها وهي تتذكرها مأخذٌ فنيّ أو عاطفيّ تجاهها؛ تلك مزيّته التي لا تزال تكفل له حضوراً فريداً في قلوب الجماهير وصلب المشهد الفني على امتداد العالم العربي لا في مصر وحدها.
للتواصل مع الكاتب: