يسألنا كثيرون كنقّاد لماذا "نقسى" في نقدنا على الأعمال الحالية أو الحديثة.
للحقيقة في السياق النقدي يعرف الجميع بأنه للقياس عليك أن يكون عندك نوع من "أدوات القياس" و"أعمالٌ للقياس عليها". من هنا فإننا حينما نقيس الأعمال الحديثة ونقصد بها الدرامية "مسلسلات مثلاً"، نحدد ما هي "الأعمال التي نقيس عليها".
أنا شخصياً مثلاً، أعتبر بأنَّ أعمال المصري الراحل أسامة أنور عكاشة هي الأعمال التي أعتبرها مقياساً أسير عليه في "قياسي" و"نقدي" لأي عمل درامي من أية جنسيةٍ عربية كان.
ولأنَّ البعض لا يعرف الكثير عن الراحل القدير وجدتُ أنه من الضروري الحديث عنه ولو قليلاً. إذا أردنا فعلاً الحديث عن ذلك، فإنَّ أعمال أسامة أنور عكاشة (1941-2010) الكاتب المصري الموهوب والقدير قد أرّخت لدراما مختلفة. دراما أثبت من خلالها أنه يستطيع تقديم أعمال تلامس الواقع والمجتمع والتاريخ وبنفس الوقت يحافظ على أصالة مشرقية عربية مصريةٍ خاصة. لم يستعمل عكاشة الجنس أو الإغراء إلا في إطاره الأقل لدرجة أنه لا يكاد يكون موجوداً في عالمه الدرامي إلا كإشارة وإيحاء لا أكثر ولا أقل. مع العلم أن تأثير الأمر يبدو واضحاً، وهذا جزءٌ من حرفة عكاشة المهمة والمرتفعة.
ابتعد عكاشة من جهةٍ أخرى عن مهارات زملاءه، مجايليه أو من أتوا قبله في طريقة كتابة الدراما، لقد أراد تأسيس مدرسته الخاصة التي لا تشابه أحداً من هنا فإنه "اخترع أو صنع" مدرسته التي لا يشابهها أحدٌ حتى اليوم.
ولكي نفهم أكثر عن كيفية صناعة عكاشة لمدرسته يكفي النظر بسهولة إلى أعماله المهمّة مثل "ليالي الحلمية"، "الشهد والدموع"، "زيزينيا"، "أرابيسك" حتى ندرك أنَّ المبدع القادم من طنطا، والأخصائي الاجتماعي العاشق لمدينة البحر الإسكندرية عرف تخطيط "مدرسته" على طريقته الخاصة جداً.
1- الاهتمام بصناعة البطل بشكلٍ يفوق الوصف.
في "الدراما، الكتابة، القصص، الحكايا" يحظى البطل بأهمية كبرى، ولا تشذ مدرسة "الكتابة الإبداعية" عن ذلك، فتفرغ له طريقةً خاصة للصناعة تسمّى "المفتاح الحجري" (بالإنكليزية skeleton key) وطبعاً خلال مستويات التدريب المختلفة فإنَّ المتدرب يمر بالمرحلة الأولى منها التي يتم تعريف القارئ والكاتب بالبطل من خلال صفحةٍ واحدةٍ تعريفية، وصولاً حتى المرحلة العاشرة (تسمّى اصطلاحاً skeleton key prim 9)، والتي يتم "تشريح" البطل فيها، وصولاً حتى 45 صفحةٍ كاملة من الشرح والأسئلة حوله وعنه وعبره. مر عكاشة بهذا النوع من العمل، إذ إنه على ما يبدو قد استخدم ذات التقنية، وإن لم يسمّها كذلك. يمكن مثلاً النظر إلى بطله "بشر عامر عبدالظاهر" من مسلسل "زيزينيا"(إخراج جمال عبدالحميد، 1997)، إنه يستفتح مشاهده به "أنا السؤال والجواب، أنا مفتاح السر، وحل اللغز، أنا بشر عامر عبدالظاهر".
يركز على شخصيته، يرسمها، ويتركها تعمل ضمن ضوابط محددة في عقله سلفاً. شخصيات مركّبة، معقدة، مبنية باحترافية عالية جداً، فهي مزيج بين الخير والشر، حقيقية إلى أبعد حد. مثلاً يسأل المشاهد نفسه هل "حسن النعماني" من مسلسل "أرابيسك"(إخراج جمال عبدالحميد، 1994) هو طيّب أم شرير: إنه "محشش"، يفشي أهم سر لدى أستاذه خلال "قعدة غرزة" (جلسة تحشيش)، يترك ولده مع زوجته، يتلاعب بقلب المعلمة توحيدة (حبيبته) مع ذلك فإنه "وطني للغاية"، "فنان للغاية"، "شجاع وإبن بلد للغاية". هكذا يصنع باحترافية بالغة شخصياته. ماذا عن العمدة سليمان غانم والباشا سليم البدري من رائعته "ليالي الحلمية"(إخراج إسماعيل عبدالحافظ، الجزء الأوّل 1987)؟ هل هما طيبان؟ كل ما فيهما يوحي بأنهما ليسا كذلك، مع هذا فإن الجمهور يحبهما لأن عكاشة يقرّب شخصياتهما من الجمهور فيخلق تعاطفاً وتناقضاً في التعامل معهما. هنا نحن نتحدث عن صنعة في صناعة الشخصية، قلما شاهدنا كاتباً درامياً يقاربها.
2- الاهتمام بالتاريخ
عشق أسامة أنور عكاشة بلاده إلى حدٍ كبير، وظهر ذلك بوضوح في تمريره للتاريخ بداخل القصة الرئيسية والحبكة الدرامية لأعماله. مثلاً منذ بداية "أرابيسك" لاحظنا ذلك بشكلٍ واضح من خلال المشهد الافتتاحي، حيث نجد "جد حسن أرابيسك" الذي يتم "خطفه" -بشكلٍ أو بآخر- وإجباره على الذهاب -كمعلم أرابيسك- للعمل في تركيا لإثرائها وإغناءه بإبداعاته. بعد ذلك يمر على ما يحدث في مصر وكيفية "سرقة آثارها" من خلال حكاية "الكرسي" في العمل. في عمله الأكثر امتداداً "ليالي الحلمية" نجد تاريخ مصر كاملاً متكاملاً يحكيه خطوةً خطوة وعلى طريقته: من عصر الباشاوات وقصصهم وحكاياهم مع الملك فاروق ووالده، والثوار المقاومين لهم، وصولاً حتى عصر السادات وما بعده، مروراً بعصر الزعيم جمال عبدالناصر وتجربته الخاصة. رؤيته التاريخية الهادئة وتقديمه لها بطريقة "غير فرضية" جاءت منطقية للغاية، إذ إن مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات "مثقفة سياسياً" كما يشير إدوار سعيد، تعرف وتفهم بالسياسة وتتأثر بها وحولها وتعيش معها، وهذا ما ظهر من خلال تعلق جميع فئات الشعب بالأحداث السياسية الكبرى فنجد صبي القهوة وصبي "الراقصة"(العَالْمَة كما تسمى مصرياً) يفهمان ويهتمان في السياسة كما الباشا والخريج الجامعي. كل هذا قدّمه عكاشة باعتباره بديهياً، كما أشار لتأثيره على بناء المجتمع، وعلى طريقة اللبس، والمأكل والشكلين الداخلي والخارجي.
3- الاهتمام بالبيئة المحلّية: الحديث عنها ولها
اهتم عكاشة بالبيئة المحلّية والتعبير هذا مأخوذ من "مدرسة الكتابة الإبداعية" الذي يمكن اعتباره حالياً من أهم مدارس الكتابة كونها تهتم بالكتابة كفعل "محدد ومدروس ومنطقي". أراد عكاشة لا أن يكتب عن البيئة فحسب، بل أن يكتب لها كذلك. من هنا فهم أنَّ على مدرسته أن تحكي عن طبقات المجتمع المصري، وتحكي لهم بنفس الوقت. مثلاً في زيزينيا، قارب جميع فئات المجتمع السكندري. الإسكندرية المدينة التي عشقها عكاشة وتعامل معها لا باعتبارها مدينة يزورها، بل مدينته الأم، وفيها قضى معظم أوقاته الساحرة كما قال ذات مرّة. رسم عكاشة المجتمع السكندري كما أشرنا.