مع كل بادرة لغضب ما محتمل من أزهرنا الشريف على الفور ألمح شيئين صارا متلازمين، الأول أن الاحتجاج يمتد إلى رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى، يطالبونه بسرعة التدخل لإيقاف تلك المهزلة، أما الثانى فهو اعتذار سريع من الجهة المتهمة بارتكاب المعصية أقصد بالطبع ما يعتبرونه معصية، وهى تؤكد: أبدا لم نقصد. جميل ورائع أن نسارع عندما نخطئ فى حق أفراد أو مؤسسات أن نعلن الندم، خاصة لو كان الأمر يمس مؤسسة دينية الأزهر أم الكنيسة، على شرط أن نوقن بالفعل أن ما أقدمنا عليه هو خطأ يصل لتخوم الخطيئة، ولكن أن يُصبح الأمر على هذا النحو ممثل يرتدى زى المأذون ثم يحدث موقف كوميدى وتطير العمامة فيُضحك الجمهور فيعتبر رجال الأزهر أن هذا الأمر ينال من العقيدة، هذه هى بحق المهزلة، هل أصبحت عمامة المأذون معادلا موضوعيا للإسلام؟ أى منطق يجعلنا نساير أزهرنا الشريف فى تلك النظرة المتعجلة فى الحكم على الفن والدين معا.
لو عدتم إلى جزء كبير من تراثنا السينمائى القديم منذ نهاية الثلاثينيات فى زمن الأبيض والأسود، وحتى التسعينيات، خاصة فى ما يتعلق بالمشهد الشهير للمأذون، ستكتشف أنه فى العادة ينطوى على مفارقة كوميدية، ولم يحدث ولا مرة واحدة أن اعترض الأزهر، حيث كانت لدينا جميعا وعلى رأسنا المؤسسة الدينية رحابة ومرونة فى تقبل الفنون، المفروض دراميا فى مسرحية «رئيس جمهورية نفسه» التى أثارت الغضب، أن الدور لمأذون مزيف أى أنه شخصية مرفوضة ومدعية والسخرية منها واجبة، إلا أنه كالعادة يغضب شيخ فيثور الشيوخ، وتتحول الحبة إلى قبة.
ولم تكن المرة الأولى التى يغضبون فيها بسبب المأذون، قبل أربع سنوات نشرت الجرائد صورة لحنان ترك وهى تلعب بطولة مسلسل «نونة المأذونة»، وقدمت لها الفضائيات قبل رمضان لقطات بزى المأذونة، وكالعادة كان الغضب عارما فاعتذرت حنان وطلبت حذف تلك اللقطات، إلا أن المفارقة هى أنه بعد اعتزال حنان لا تزال صورتها تُنشر على صفحات الجرائد بزى المأذونة نونة.
تأملوا.. الغاضبون لا يكتفون مثلا بالشكوى إلى وزير الثقافة أو حتى رئيس الوزراء ولكن إلى رئيس الجمهورية مباشرة، وذلك لأن هناك اعتقادا أن الرئيس بطبعه متحفظ فى رؤيته للفنون وهو كثيرا ما يشير فى أحاديثه إلى ضرورة مراعاة البعد الأخلاقى والدينى للفنون عموما، وفى أكثر من مناسبة وآخرها فى مطلع شهر رمضان الماضى نشرت أكثر من جريدة أن الرئيس غاضب من المسلسلات المعروضة على الشاشة الصغيرة، وهو بالتأكيد ينطوى على رفض أخلاقى بسبب مشاهد العنف وربما التعاطى، وعلى الفور تشعر أن أكثر من جهة داخل الدولة تسارع بتوصيل الرسالة بأنهم غاضبون مثله وأكثر.
لا أستطيع أن أنحى جانبا القرارات التى أصدرتها مؤخرا نقابتا الممثلين والموسيقيين بعيدا عن تلك الرؤية المباشرة التى تحاول أن تساير ما تتصور أنه تعليمات عليا، مثلا نقيب الممثلين أشرف زكى بعد أقل من 24 ساعة على عرض المسلسلات فى رمضان كان يصف قسطا وافرا منها بالوقاحة، بينما هانى شاكر نقيب الموسيقيين قرر هو ومجلس الإدارة أن يراقب ملابس المطربات وكم سنتيمتر فوق أو تحت الركبة.
الرئيس من المؤكد لا يريد فرض هذه الأحكام الأخلاقية المباشرة على الفنون، ولكن علينا أن نضع تلك الأمور فى نصابها ومنطقها، الرئيس يعبر عن قناعته الشخصية بالفن ولا يعنى ذلك أن يُصبح هذا هو فقط الفن، ولكننا تعودنا أن نعتبر أن ما يقوله الرئيس أوامر، لاحظت أن عددا من النجوم عندما يسألون عن رأيهم فى ما يقدم الآن على الساحة يكررون نفس إجابة الرئيس بأنهم غير راضين عنه بسبب تجاوزات لفظية وحركية وأن الفن عليه أن يتدثر بمقاييس دينية وأخلاقية، وقبل أن نوغل فى تلك النقطة الشائكة أرجو من حضراتكم أن تفتحوا معى قوس «وهو أن الفن لا يناصب لا القيم الدينية أو الأخلاقية العداء ولا يمكن أن يتحول إلى خنجر لطعن ثوابتنا الأخلاقية والدينية» نقفل القوس ونكمل ولكن الفن لا يقيم على هذا النحو القاصر أى نُمسك بمازورة أخلاقية ونبدأ فى إحصاء عدد الكلمات واللقطات، وبناء على ذلك نحكم على العمل الفنى أخلاقى أم غير أخلاقى.
المتلقى فى كل الدنيا من حقه أن يختار ما يحلو له، ولكن لا تتحول إلى قاعدة ملزمة للجميع حتى لو كان هذا رأى الرئيس، مثلا الرئيس جمال عبدالناصر كان عاشقا لصوت أم كلثوم وكان يحضر بين الحين والآخر حفلاتها ومن أحب الأغانى إليه « أروح لمين»، ولو دققنا فى أرشيف حفلاتها ستجد أن هذه الأغنية التى كتبها عبدالمنعم السباعى ولحنها رياض السنباطى عام 54 دائما لها مساحة أكبر فى الحفلات التى كان يحضرها الرئيس فتقدمها فى الوصلة الأخيرة وكانت تترك وصلتين لاختيارات الناس، ولم يعتبر أبدا عبدالناصر أن الغناء يساوى فقط أم كلثوم ولا هو فقط «أروح لمين».
الرئيس لا يحيل أبدا ذوقه الشخصى إلى «ترمومتر» فى الاختيار ولكنه يقول رأيا ويترك كل الأبواب مُشرعة، ما يجرى فى الحقيقة ليس مجرد قناعات الرئيس بالفن الأخلاقى بل إن قطاعا لا بأس به من الوسط الفنى صار يعتقد أن هذا هو ما تريده السلطة، فسارعوا بإعلان جمهوريتهم الأخلاقية فى الإبداع. أتذكر مثلا أن أحد أبطال فيلم «أولاد رزق» الذى يتهمه أصحاب النظرة الأخلاقية المباشرة بالإسفاف والتردى، عندما سألوه عن رأيه فى الدعوة لضرورة التزام الفن بتلك المعايير أجابهم «أؤيدها بشدة ولن تتقدم فنوننا للإمام إلا إذا طبقنا حرفيا تلك المبادئ وأنا عن نفسى لا أقبل بغيرها».
المؤسسة الدينية بالطبع تراقب وتشاهد كل ذلك عن كثب، ولهذا تجد أن من حقها بين الحين والآخر أن تدلى برأيها فى الفن مستندة إلى أن تلك أيضا هى قناعات الرئيس ولهذا تحرص على أن يصل غضبها للرئيس، وهكذا فى سابقة خطيرة اعتبروا أن زى المأذون رمز للإسلام وأحد المقدسات التى لا تمس من قريب أو بعيد، رغم أن الإسلام بل وكل الأديان فى عمقها لا يعنيها شكل الملابس ولا لون الوجوه ولكن السلوك والقلوب، لا يوجد فن يُقدم بناء على توجيهات الرئيس ولا قيود تفرض على الفن بناء على أوامر الرئيس، ولكن البعض يحاول أن يقول للسلطة السياسية اكتشفنا الشفرة ونحن دائما على الخط.
نقلًا عن جريدة “المصري اليوم”
.