بدافع من خيالات متشبّثة بأذيال اليقين حول تصنيف الأشياء إلى جميل وأقلّ جمالاً استناداً إلى حساب الزمان بحسب مرجعيات نوستالجيا مراوغة، ظللت أتابع أعمال رمضان الدرامية في السنوات الأخيرة تحت سطوة مرجعية معيارية تعود إلى ثلاثة عقود أو عقدين على أفضل تقدير في الانفتاح عبر الأجيال الجديدة. ولأن سطوة الزمان تعمل في الاتجاهين معاً، القديم بتأثير الحنين الجارف والجديد بفعل الحضور الطاغي، بلغ تصالحي مع الأعمال "الجديدة" حدّاً مُرضياً من الاندماج ثم التقييم بأقصى ما يمكن من التحرّر من سطوة كلاسيكيات المُثُل الدرامية العليا؛ كأنّني بذلك أتغلّب على كبريائي النقدي الذي بدا كما لو كان مستعصياً على النزول من قمم الماضي الدرامي الحالم إلى سفوح اللحظات الفنية الراهنة.
ولكن الأمر في الواقع ليس مرتبطاً بالحنين الجارف إلى الماضي في كل الأحوال، سواءٌ مع الدراما أو غيرها؛ فالنجاح الطاغي الذي يؤسس مدارس/معالم فنية راسخة لا يتواتر عادة مع إطلالة كل موسم درامي وإنما يحتاج إلى أن يختمر عبر زمان يطول بدرجة أو أخرى بحيث لا تُعدّ أوهام النوستالجيا وحدها المسؤولة عن تأخّر الاعتراف بالجديد الذي يستحق الاحتفاء العظيم.
بذلك في الاعتبار، وكما في تجارب المشاهدة خلال رمضانات قريبة مضت، ضمّت الأعمال الدرامية المعروضة هذا العام العديد مما يحظى بمستويات فنية رفيعة تستحق الإشادة؛ لكن الأدعى إلى الانتباه أن التنافس المحموم قد رفع أسقف التطلّعات الفنية بحيث بات ما يلزم لإنتاج عمل درامي يجذب الأنظار وسيتحوذ على أكبر عدد من ساعات المشاهدة ليس مجرد ميزانية ضخمة تليق بعمل درامي يُقدّم في ذروة موسم الإقبال السنوي وإنما عناية دقيقة بكل جوانب وتفاصيل العمل من الوجهة الفنية، وبطبيعة الحال دون إغفال ما يلزم من مقتضيات البذخ المالي قياساً إلى الإنفاق التلفزيوني الرشيد في العادة بقية العام.
بدا الحوار أحدَ أبرز عناصر الجذب في الأعمال المعروضة على اختلافها؛ وإذا كان قاموس الحياة اليومية الشعبية غنيّاً ومتجدداً بالكلمات والأمثال والتعابير لمختلف المقامات، فإن حرفية لغة الحوار قد ارتقت إلى مستويات رفيعة بحيث بات نادراً أن نقع - على سبيل المثال - على شخصية تنطق بكلمات أرفع من ثقافتها كما لو كانت تتحدث بلسان مؤلف العمل، بل امتدّت دقة الانتباه إلى تفاصيل الحوار إلى ميزان الكلمة والحرف وليس مضمون العبارة مجملاً، وتجاوزت ذلك إلى الحرص الدقيق على الابتداع اللمّاح من خلال التلاعب الذكي بالكلمات والحيل البلاغية اللفظية عميقة الدلالة وليس تلك التي من باب "تدخل لي قافية" أو "القافية تحكم".
الأرجح أن تهمة كالاقتباس عن المسلسلات التركية مثلاً – شكلاً أو مضموناً – لم تكن مما يطال الأعمال التي تعرض في رمضان تحديداً، فنكهة رمضان الدرامية ظلت مَحليّة بمذاق عربي خالص؛ غير أن تهمة اقتباس الأعمال الرمضانية بعضها عن بعض لا تزال ماثلة بأقدار متفاوتة. وإذا كان الاقتباس/الاستلهام مسألة لا مناص منها في الفن وفي مختلف مجالات الحياة، فإن ما بين الاقتباس/الاستلهام والمحاكاة ليس دوماً جداراً عالياً يفصل بين الإبداع والتقليد، ولن نقول بأنها شعرة أو خط رفيع، فالغالب أنها منطقة يقع فيها الكثير من التداخل.
بذلك في الاعتبار، يصعب أن تنجو معظم الأعمال المعروضة من تهمة التكرار في الفكرة أو طريقة العرض، بل الأرجح أن تلك الأعمال تعمد عمداً إلى قوالب بعينها تظنها الأصلح لتأكيد إضفاء الطابع الرمضاني على العمل، وهنا يكمن التحدّي في الخروج بقصص جديدة تماماً تعرض جوانب إنسانية أو مجتمعية مبتكرة بعيداً عن إغراء استعراض يوميات البيت والحارة شديدة الجاذبية بما تتيحه من متون وحواشي وخلفيات قابلة جميعاً لأن تستوعب بسهولة ما يدغدغ وجدان المشاهدين الرمضاني. بهذا، فإن "النص" – على سبيل المثال - نموذج بديع لكيفية اقتحام تلفزيون رمضان بعمل ليس في السياق التقليدي للعائلة المصرية والحارة العربية.
بعيداً عن فكرة الخروج بعمل واحد أو بضعة أعمال أصيلة خلال هذا العام والأعوام الأخيرة، ينجح رمضان في إبراز العديد من الأعمال الناجحة والمكتسحة جماهيرياً وحتى فنّياً؛ ولكن يظل إرساء دعائم مدرسة درامية مختلفة المعالم تحدّياً عظيماً ماثلاً، ليس في الشهر الفضيل وحده.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: عبد المنعم مدبولي.. الجدّ والحفيد