الباحث التاريخي وليد فكري يفنّد أخطاء مسلسل «معاوية» التاريخية

رباب طلعت

شهدت الأمة الإسلامية، بعد وفاة النبي المصطفى ﷺ، صراعات سياسية طويلة خلّفت جراحًا عميقة في جسدها. بدأت هذه الصراعات بظهور المرتدين في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، وبلغت ذروتها في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في التاريخ الإسلامي: الفتنة الكبرى. لم يكن هذا الصراع مجرد نزاعٍ على الحكم، بل كان اختبارًا قاسيًا لوحدة الأمة الإسلامية الفتية، حيث امتزجت السياسة بالدين، وأُعيد تشكيل موازين القوى داخل الدولة الإسلامية.

فبين علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين وصاحب الشرعية الدينية والتاريخية، ومعاوية بن أبي سفيان، والي الشام الذي رفع لواء المطالبة بالقصاص لدم عثمان، تشكّلت معركة سياسية وعسكرية رسمت ملامح الانقسام الأول في الإسلام. لم يكن الصدام بين جيشين فحسب، بل كان تصادم رؤى ومصالح، حيث اختلطت السياسة بالدين، وتحولت ساحات المعارك إلى مفترق طرق حاسم في مسيرة الأمة.

لم تقتصر آثار الفتنة الكبرى على القتال في واقعة الجمل وصفّين، ولا على حادثة التحكيم التي زادت الأمور تعقيدًا، بل امتدت لتضع البذور الأولى لانقسامات مذهبية وسياسية استمرت قرونًا، وأصبحت مرجعًا للتوظيف التاريخي في صراعات لاحقة، مما جعل هذه المرحلة من أكثر الفترات الشائكة التي يصعب تناولها أدبيًا وفنيًا. من هنا، جاء مسلسل «معاوية» كخطوة جريئة للنبش في تلك الحقبة العصيّة، لكن هل نجح في تقديمها بصورة دقيقة؟

للإجابة عن هذا السؤال، تواصل «إعلام دوت كوم» مع الباحث والكاتب في مجال التاريخ، وليد فكري، الذي كشف عن عدد من الأخطاء وأوجه القصور في المسلسل، واصفًا إياه بأنه «مخيب للآمال»، ولم يكن على قدر التوقعات أو «الضجة الإعلامية والدعائية» التي أُثيرت حوله لسنوات.

تسطيح الشخصيات وأحداث الفتنة الكبرى

أشار فكري إلى العديد من الأخطاء التاريخية والدرامية التي شابت المسلسل، مما أخلّ بدقة السرد التاريخي وأسهم في تشويه بعض الشخصيات المحورية في تلك الفترة. وأكد أن المسلسل قدّم الشخصيات الرئيسية بسطحية شديدة، رغم تأثيرها العميق في مجريات الأحداث، مثل مروان بن الحكم، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومالك بن الأشتر. كما أن تناول المسلسل للخلاف بين الإمام علي ومعاوية جاء مختصرًا بشكل «مخلّ»، دون تقديم المفاوضات والتبريرات التي قدمها الطرفان، أو التغيّرات التي شهدها الصراع.

وأوضح أن شخصية علي بن أبي طالب قُدمت في الأحداث وكأنه رجل طيب وضعيف، وهو تصوير غير دقيق، إذ كان الإمام علي ذكيًا وذو رؤية عميقة، ولم يكن ضعيفًا أبدًا. أما شخصية مروان بن الحكم، أحد أبرز محركي الفتنة، فقد أهمل المسلسل دوره المحوري في تأجيج الصراع بين الخليفة عثمان بن عفان ومعارضيه.

كما أشار فكري إلى أن المسلسل لم يبرز الدوافع القبلية والدينية لحركة الخوارج، مكتفيًا بعرضها بصورة نمطية، في حين أن هناك أبعادًا سياسية وقبلية تتجاوز الخلاف مع الخليفة عثمان.

وأضاف: «هناك تسطيح شديد للمشكلة الأساسية، وهي الفتنة الكبرى. هذه القضية تُعد من أكثر المواضيع حساسية، حيث أفسدها التحزب المذهبي، وكذلك التسييس والإسقاط السياسي على أزمنة مختلفة، وهو خطأ فادح. فالتاريخ ليس مطلوبًا منه أن يجامل أحدًا، بل هو علم إنساني يهتم بالحقائق بعيدًا عن الأهواء».

غياب العمق في شخصية معاوية

قال فكري إن شخصية معاوية بن أبي سفيان في المسلسل افتقدت العمق، إذ صُوّر كشخصية انفعالية وصاخبة، رغم أن المعروف عنه تاريخيًا أنه كان حليمًا وسياسيًا بارعًا، ولم يكن قائدًا ميدانيًا يقاتل في الصفوف الأمامية، بل كان رجل دولة يدير المعارك من الخلف بعقلية المخطط والمحرك للأحداث.

وأشار إلى أن المسلسل أغفل عوامل أساسية أثّرت في تكوين معاوية كشخصية سياسية، مثل نبوءة الكاهن اليمني لأمه، هند بنت عتبة، بأنه سيكون ملكًا، إضافة إلى الروابط التاريخية لبني أمية بالشام التي تعود لما قبل الإسلام. كما تجاهل المسلسل تفاصيل داخل أسرة معاوية، مثل طلاق والديه، وصراع أبي سفيان مع والدته هند، حيث كان يميل لابنه يزيد، بينما كانت هند تؤمن بنبوءة معاوية وترى أنه سيكون ذا شأن عظيم.

وأكد فكري أن العمل لم يُبرز حنكة معاوية وذكاءه السياسي، ولم يتطرق إلى كيفية إدارته المالية والسياسية للدولة، مثل تأسيسه للأسطول البحري الإسلامي وتغلبه على العوائق المادية.


أخطاء في الملابس والمعارك واللغة

رصد فكري عدة أخطاء أخرى في المسلسل، منها:

الملابس غير الدقيقة زمنيًا، حيث ارتدى الممثلون خوذات حربية تعود للعصر المملوكي، وملابس غير مناسبة للبيئة الصحراوية. كما ظهرت بعض الشخصيات بأزياء حريرية مطرزة، وهو أمر غير مألوف في ذلك الزمن.



مشاهد المعارك غير الواقعية، إذ بدت أشبه بـ«استعراض عسكري»، في حين أن الحروب كانت أكثر عشوائية واتساعًا.

لغة الحوار الحديثة، التي بدت معاصرة أكثر من اللازم، مقارنة بأعمال سابقة مثل مسلسل «عمر» الذي التزم بلغة أقرب للعصر الإسلامي الأول.

عدم مراعاة الفوارق العمرية بين الشخصيات، حيث بَدَت بعض الشخصيات أكبر سنًا مما كانت عليه تاريخيًا. كما لم تُراعَ الصفات الشكلية الدقيقة للشخصيات، مثل قصر قامة الإمام علي وبنيته القوية، بينما قُدم الفنان إياد نصار بصورة مختلفة تمامًا عنه.


تحيّز واضح وتسطيح للصراعات السياسية

يرى فكري أن المسلسل لم يكن موضوعيًا في عرض الصراع، حيث ركّز على إبراز دور معاوية في جميع الأحداث، حتى التي لم يكن طرفًا رئيسيًا فيها، بينما قُدّم الإمام علي بصورة طيبة وبسيطة دون إبراز براعته القيادية والسياسية.

وأكد أن الدراما التاريخية ليست مصدرًا للمعرفة، لكنها وسيلة لتحفيز المشاهد على البحث، ومع ذلك يجب أن تلتزم بالحدود الأساسية للحقيقة التاريخية، خاصة عند تناول مواضيع حساسة مثل الفتنة الكبرى، التي طالما تأثرت عبر التاريخ بالتحزب المذهبي والإسقاطات السياسية.

جدلية «كاتب الوحي»

حول الجدل الذي أثاره المسلسل بشأن كون معاوية كاتبًا للوحي، أوضح فكري أن هذا الأمر غير محسوم، حيث تتضارب الروايات التاريخية بين المصادر الأموية التي ضخّمت مكانة معاوية، والمصادر العباسية التي سعت إلى النيل منه.

وأضاف أن سن معاوية في تلك الفترة كان مناسبًا ليكون كاتبًا للوحي، إذ كانت معايير النضج والقيادة في ذلك العصر تختلف عن عصرنا الحالي، فالنبي ﷺ كان يولي الشباب مسؤوليات كبرى، كما فعل مع الصحابي الشاب الذي عيّنه واليًا على مكة وعمره 21 عامًا.

كسر التابوهات ضرورة ولكن بحذر

ورغم انتقاداته، يرى فكري أن المسلسل كسر حاجز تجسيد الشخصيات التاريخية الحساسة، وهي خطوة مهمة، لكنه كان بحاجة إلى الاعتماد على مصادر تاريخية دقيقة.

واختتم قائلًا: «التاريخ ليس مُطالَبًا بمجاملة أحد، بل يجب التعامل مع الشخصيات بإنصاف، دون تقديس أو شيطنة، لأن التاريخ علم إنساني يهتم بالإنسان، لا بالأساطير».

نرشح لك: 3 راحلين على تتر مسلسل "معاوية".. أبرزهم أشرف عبد الغفور