عبدالرحمن جاسم
يحكي أحد آباء المسرح والأداء التمثيلي الروسي، قسطنطين ستانسلافسكي، في كتابه الشهير «بناء الشخصية» - والذي يتناول فيه «مهنة المؤدي/الممثل» بشكلٍ محترف -: «إنه كي تؤدي، عليك بدايةً أن تنسى نفسك، ثم عليك أن تنسى من حولك، ثم عليك أن تجعل كل هؤلاء معًا: أنت والآخرين، ينسون كل هذا، ويتذكرون فقط ما أنت تؤديه فحسب، إلى درجة الوصول إلى غيابك الشخصي تمامًا، وإبقاء الشخصية التي تؤديها والدور الذي تلعبه في الواجهة فحسب». اليوم، في العام 2025، قلةٌ قليلةٌ - تعد على أصابع اليد الواحدة - تستطيع التأدية إلى هذا الحد، بعيدًا عن إبقاء شخصياتهم - الحقيقية - بائنةً/ظاهرةً، لدرجة أنك - كمشاهد وليس كناقد أو محترف - تستطيع التمييز أن ذلك هو فلان، الممثل المعروف، وليس الشخصية التي يلعبها.
في مسلسل «رسائل الحب والحرب» (2007، كتابة ريم حنا، وإخراج باسل الخطيب)، قدّمت الممثلة السورية سلاف فواخرجي شخصية «نيسان»، الصبية ذات الشعر الأحمر المصفف، الحس المرهف، والطريقة الهائلة في جذب التعاطف معها. راهن كثيرون آنذاك على أنَّ هذه الشخصية المرهفة الحس هي «فواخرجي» نفسها، وأنها «هكذا» شخصيًا. وأذكر مقالًا مطولًا لناقدٍ سوري حكى فيه: «إنها فقط لعبت شخصيتها الحقيقية، ولم تؤدِّ». بعدها بسنةٍ واحدةٍ فحسب، قدّمت فواخرجي «أسمهان» (2008، للكاتب سعيد أبو العينين وسيناريو قمر الزمان علوش، وإخراج شوقي الماجري)، مقدمةً شخصيةً مركبةً، معقدةً، فيها ألف تركيبٍ وتركيب عن حياة الممثلة والمغنية الراحلة المعروفة. يومها أسكتت الممثلة الشابة الأصوات حولها، لناحية أنها «تستطيع التأدية» وخلع «ثيابها» الأنوية، وارتداء «الشخصية التي تؤديها» بعيدًا بشكلٍ كلي عن «سلاف» خارج عالم التمثيل.
بعدها بأعوام، يعود ستانسلافسكي ليطرق باب الممثلة الموهوبة من جديد من خلال كتابه «الممثل يستعد»، ليشير إلى أنَّ «على الممثل أن يتخيّل الشخصية التي سيجسدها، ويبني الشخصية من خلال أنَّ جميع التعبيرات الشخصية يجب أن تنبع من حياتها الداخلية: ذكرياتها، ومعتقداتها، وانشغالاتها، وما إلى ذلك». هنا بدا أن الممثلة الموهوبة أمام تحدٍّ مختلفٍ آخر، حينما أدّت «شارع شيكاغو» (2020، كتابة وإخراج: محمد عبدالعزيز). إننا أمام شخصية تمتلك أبعادًا ومستوياتٍ شديدة الكثافة: كفيفة، موهوبة تريد الغناء، ابنة عائلة غنية/معروفة، لديها شقيق يعمل في الأمن، تحب صحفيًا طائشًا.
في تلك اللحظة، بدا - في أذهان كثيرين - توقع أن تفشل الشخصية وسلاف في آنٍ معًا؛ ذلك أنَّ قلةً قليلةً فحسب، في الوطن العربي بأكمله من المحيط إلى الخليج، استطاعت تأدية دور «الكفيف» دون «كليشيهات» الأداء المبتذلة، والتكراريات المستهلكة السطحية. قلةٌ يبرز من بينهم القدير الراحل محمود عبدالعزيز في «الكيت كات» (1991، عن رواية لإبراهيم أصلان، إخراج وسيناريو: داوود عبدالسيد)، حينما قدّم شخصية الشيخ الضرير حسني، الذي يمارس حياته «طولًا وعرضًا» بشكلٍ مدهش، بعيدًا عن «كفافه». ما استحضره داوود عبدالسيد ومحمود عبدالعزيز هو ما حكاه ستانسلافسكي أصلًا، وهذا تحديدًا ما سارت عليه الممثلة السورية، حينما أدّت شخصيتها الجميلة «ميرامار» في «شارع شيكاغو». أن تنسى «عدم الرؤية» ولا «تنساها» في آنٍ معًا، أن تعيش حياة شخصيتها/بطلتها كما لو أنها ليست «بضريرة»، مع ضرورة إبقاء جميع ما تفعله في كل لحظة بائنًا بأنها «لا ترى بعينيها». هذا التمازج مع الشخصية والتماهي معها، أبعد «سلاف فواخرجي» عن الصورة، وأبقى ميرامار وحدها هناك في الواجهة فحسب. إنه، بالتالي، أعاد تخليق شخصية «المؤدي» وازدياد حرفة وعدة «الممثل» لدى فواخرجي بشكلٍ مرتفع وكبير.
في رمضان الحالي، يعود ستانسلافسكي ويحضر معه أثيرته فواخرجي. يشرح ستانسلافسكي ما يسميه «دائرة الاهتمام الأولى» ضمن منطق «العزلة في العلن»، إنها حين ينسى الممثل تمامًا كل من حوله، ويغيب كليًا في «حضرة الدور والشخصية». في مسلسل «ليالي روكسي» (كتابة وإخراج محمد عبدالعزيز)، يمكن الحديث مطولًا حول أداء الممثلة السورية، خصوصًا لناحية غيابها كليًا في الدور، لدرجة أنها في لحظةٍ ما، وفي مشهدٍ مقصودٍ من المخرج/الكاتب محمد عبدالعزيز، تتناقش في شخصيتها «توتة» أول ممثلة في «فيلم سوري» مع زميلها بدري (جوان الخضر) حول «شخصيتها في مسلسل شارع شيكاغو ميرامار»، مشيرةً إلى إعجابها بالاسم «ميرامار»، لكن عدم إعجابها «بالدور» أو بدور «شقيقها» ضابط الأمن (والذي يؤديه، للمفارقة، الخضر نفسه)، قائلة: «يي على عيونه» (كنوع من الشتيمة)، ليرد الخضر: «يي على عيونك إنتِ». هذا المشهد في حد ذاته يدرّس لناحية كيفية تمرير «الشخصيات المبنية» بسهولة بالغة.
«توتة» ليست «ميرامار»، لا تشبهها، رغم أنهن قريبات «زمنيًا/مرحليًا». تتحرك توتة كما لو أنها «ترقص»، تمشي متبخترةً متقافزة بطريقةٍ خاصة، ترفع يديها عن الأرض كما لو أنها واحدة من ممثلات الأفلام الأبيض والأسود، وهذا تنبهها «لحركة الجسد الخاصة» بالشخصية. تنطق/تتحدث بجملٍ قصيرة متقطعة، كما لو أنها فعلًا تمثل في فيلمٍ «كلاسيكي/أبيض وأسود». من يراقب تلك الأفلام، يعرف تمامًا ما تفعله فواخرجي: لقد درست تمامًا كيف تريد ارتداء هذه الشخصية: ارتدتها كما لو أنها روحها. في الوقت نفسه، لم تنسَ المؤدية السورية نهائيًا عمق الشخصية وصراعاتها الذاتية: «توتة» تمتلك جانبًا «مظلمًا»، فهي تمتلك «ميغالومانيا» (megalomania) خاصة بها، بمعنى أنها تشبه شخصيات الـ Femme Fatale من الـ Cinema Noir، حيث استعدادها الفطري والمطلق لأن تقوم بأي شيء للوصول إلى هدفها. إنها ليست شريرة، لكنها ذات هدف محدد وثابت. توتة التي تبدو بريئةً للغاية، بلا تجارب، وطفولية حتى، تصبح في لحظةٍ ما مصممةً وثابتةً وعنيدة، لدرجة أنها «تترك منزل أهلها ليلًا» دون معرفة أين تبيت ليلتها، وتقف متصلبةً كشجرة أمام مدرب التمثيل (دريد لحام)، وتؤدي دور الشجرة لساعاتٍ طوال، لدرجة أن «عصفورًا يأتي ويحط عليها» (في مبالغةٍ مقصودة)، رغم أنه لا خبرة «تمثيلية» سابقة لديها.