طُلِبَت منّى الكتابة هنا بغرض الشروع فى سلسلةٍ من التدوينات عن الصياغات التى تخرج عليها الأخبار، ثمّ نقرأها بها على المواقع الصحفيّة وحسابات التواصل. وأنا لطالما قدّمتُ نفسى –لمن يُسائلنى– بوصفى هاوياً؛ والهاوى لا يصحُّ أن يتناصحَ على أصحاب المهنة. وعليه، فإنّ ما سأكتبه هنا لن يعدوَ أن يكونَ جملة ملاحظات، لا ينبغى أن تؤخذ على محمل المصدر الموثوق المِهنىِّ أو الاحترافىّ، وإنما على أنها نابعة من قارئٍ مجرّد، يرى نفسه محنّكاً فى مجال القراءة، ومن ثَمّ وجدها فرصةً كى يتشاركَ –هو ورفاقه من القرّاء– ما لديه من ملاحظات.
و’القارئ المحنّك‘ ليس تعبيراً من بنات أفكارى، ولكنّنى اقتبستُه عن أمبرتو إيكو..
ولمن لا يعرفه: أمبرتو إيكو هو أستاذٌ جامعىٌّ وروائىٌّ إيطالىّ، إلا أنه بالأساس سميوطيقىّ. والسميوطيقا التى يتخصّص أكاديمياً فيها إيكو هى علم العلامات، وأعماله الروائية ليست بعيدةً عن دائرة نظريّات هذا العلم المَعنىِّ بتأويل النصِّ وتحليل الخطاب. كانت أولى أعماله –’اسم الوردة‘– فتحاً أدبياً وظاهرة غير مسبوقة فى عالم الرواية، لدرجة أنها استتبعت أن يكتبَ إيكو كُتُباً أخرى ويلقى محاضرات، عنها هى ورواياتٍ تاليةً له، تتناول تأويل النصوص عامةً، ورواياته خاصةً، ودور القارئ فى التفاعل معها وإيجاد القصد من ورائها. فى إحداها يقول إيكو:
وما سأفعله هنا –غالباً– هو أن أسرد عليكم طرائقى فى قراءة الكلام، من خلال تطبيقها على عيّناتٍ من المتداول يومياً فى الأخبار، زاعماً فى ذلك أننى أمتلك حنكة ذلك القارئ الذى أخبرنا عنه إيكو أنه يحقّق للنصِّ جدواه، أو ربما ينفى عنه الجدوى إن هو وجدها غائبة، وسيكون عليك أنت بعد ذلك أن تعقد المقارنة بين حنكة القارئ هذه، وبين الحنكة التى كانت هذه الصياغات تفترضها فىَّ، أو فيك، أو فينا جميعاً، بوصفنا قراءً محتملين.
والحال أن إقحامى هنا لكلٍّ من اسم إيكو وكلامه ليس إلا تفذلكاً منّى. فكلُّ منّا –أنا والصياغات التى أنوى أن أتكلم عنها– لا يرتقى أحدُنا لا لحنكة القارئ الذى يقصده إيكو، ولا لمستوى النصوص التى يعنيها هى أو مؤلّفيها. لكن لا بأس من إضفاء بعض العمق فى البداية على الضحالة التى أتوقع أن أأتىَ لكم بها تالياً.
ثم إنه، بعد أن أقررتُ أنه ليس لى –أنا الهاوى الغريب عن ’الكار‘– أن أتفذلك على أصحابه وممتهنيه؛ وهو ما تحتّمه اللياقة، ثَمّ أمرٌ آخرُ ينبغى أن أبادرَ به على سبيل اللياقة أيضاً؛ وهو أن أبدأَ بنفسى فأدوّن ملاحظاتى حول العنوان الرئيسىِّ الذى وضعتُه للسلسلة: “مرورَ الكرامِ”
الحال أننى شخصٌ كسول، فهو عنوانٌ قديمٌ كنتُ قد اخترتُه من سنواتٍ اسماً لمدوّنتى المعنيّة بمسائل اللغة والنحو. وقد وجدتُه صالحاً لهذه السلسلة أيضاً، بل ربما هو يصلح لها أكثر من المدوّنة، فاستعرتُه على سبيل الاستسهال؛ لذا –فى المستقبل– لا تستغرِبوا إن أنتم ضبطتمونى أستخدمه للمرة الثالثة متعلّلاً بأننى استخسرتُه، خاصةً أنه اسمٌ يعجبنى.
إنما الإعجاب لا يجب أن يُعتدَّ به؛ فهو أمرٌ انطباعىٌّ بحت وشخصىٌّ جداً، ومن ثَمّ أبقى مديناً إليكم بتعليل الاسم:
فى كلامنا العادىّ واليومىّ، فإننا، عندما نريد الإيحاء بأننا لم نُعطِ أمراً ما حقَّه من الإمعان والاستغراق فيه، نقول: مررنا عليه مرورَ الكرام. ونحن بهذا نلخّص جملة ملابساتٍ أحاطت بنا فى أثنائه: العجلة، اللهوجة، السطحيّة.. الخ. والملاحظ أن جميعها أمورٌ توحى بمعانٍ سلبية، ومع ذلك لم نتورّع عن إقرانها بـ’الكرام‘ فى مقولةٍ واحدة! أفليس الأَوْلى بالكرام أن يُقرنوا بالدقّة، والإتقان، والتركيز؛ وهى المعانى العكس؟! ولكى نفهم من أين جاءت هذه المفارقة، فإنه يتعيّن علينا الرجوع إلى أصل العبارة. والأصل هو الآية التى ورد فيها: «وَإِذَا مَرُّوٱ بِٱللَّغْوِ مَرُّوٱ كِرَامًا» (الفرقان: 72) والتى تأتى فى سياق عددٍ من آياتٍ تبيّن السَّمْتَ الذى عليه يجب أن يكون المؤمنون أو ’عِبادُ الرحمٰن‘ بتعبير هذه الآيات. والمفارقة جاءت من أحد التفسيرات بأنهم –أىّ الكرام– إذ يمرون باللغو فإنهم يمرون ’مسرعين‘، ومن هنا ارتبط ’مرور الكرام‘ بالعجلة فى تشبيهنا المجازىّ اليومىّ. وحيث إن ما تقدّمه الآية على أنه واحدةٌ من سمات عباد الرحمٰن أولئك فيه تفاسيرُ عدّة، اسمحوا لى بأن أكونَ انتقائياً وأختارَ منها ما يهمّنى فى موضوعنا: فاللغو الذى يعنينى هنا هو لغو الكلام. وهو عند العرب أىُّ كلامٍ باطلٍ أو مستقبَح، لا حقيقة له ولا أصل. أمّا المرور فقد تمرُّ أنت باللغو كما أن اللغو قد يمرُّ بك، والمرور ليس فقط بالخطو بقدميك على الأرض، وإنما قد تمرّ عليه عيناك، وقد يمرّ عليه لسانك، إلا أنك فى جميع الأحوال هذه لا تلتبس معه ولا تتورّط فيه، إن كنتَ من الكرام. والكرام تتبدّى كراماتهم فى ردِّهم هذا اللغو؛ وردّ الشىء –بمعنىً من المعانى– مراجعته.
والقارئ المحنّك ينبغى له أن يستدعىَ كلَّ هذه التداعيات التى يثيرها العنوان، وأكثر منها، لكى ’يستقرئَ‘ المعنى المستبطَن فيه، ليس فقط ما قصدتُه –أنا واضع العنوان– وإنما حتى ما لم أقصده لكنّه يبقى ممكناً وأحد الاحتمالات العديدة المُضمرَة فيه. فالقارئ المحنّك يجب أن يستجوبَ النصَّ ويطرحَ عليه أسئلته، على سبيل المثال يسأل: لماذا ’مرورَ‘ بالنصب، وليس بالرفع؟ وأىُّ ضربٍ من الكرام يقصد: كرام حياتنا العاديّة المتعجلين المتلهوجين السطحيين، أم كرام النصّ الأصلىّ الذين يردّون اللغو؟ بمعنىً آخر: من الذى يمرّ بمن؟ أيتحدّث عن نفسه مضاهياً مروره بمرور الكرام؟ أم عن الآخرين الذين مرّوا على تلك الصياغات مرور الكرام؟
والآن، أرأيتم لِمَ يعجبنى هذا العنوان؟