بسام سرحان يكتب: “لام شمسية”.. كيف تحوّل موضوع تعبير إلى عمل فني؟

أهم ما يتصف به صُنّاع عمل “لام شمسية”، المخرج “كريم الشناوي” وورشة “سرد” بقيادة “مريم نعوم”، أنهم يبحثون عن “موضوع” للكتابة عنه، وليس أفكارًا تطرأ على خيال المؤلف فيعمل على تطويرها. وهنا يكون من السهل أن نقع في فخ الموعظة المباشرة التي تتناسب أكثر مع مواضيع التعبير التي كنا نكتبها ونحن ندرس اللغة العربية، فا عناوين المسلسلات الأهم لهؤلاء الصُنّاع تتماشى تمامًا مع تلك الفكرة، مثل اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه “خلي بالك من زيزي”، والعلاقات العاطفية وتعقيداتها “الهرشة السابعة”، وأخيرًا التحرش "لام شمسية".

كلها مواضيع يمكن أن تكون سؤالًا في امتحان اللغة العربية بفرع التعبير، فقط اكتب قبلها “اكتب عن”.

ولكن براعة ورشة “سرد” و”كريم الشناوي” هي تحويل تلك المواضيع إلى حدوتة درامية وصراع نفسي قائم من خلال صورة بصرية مُنفّذة بحرفية عن طريق “كريم الشناوي”، وعن طريق كتابة ذكية، حذرة، تحاول ألّا تقع في فخ المباشرة. وهذا ملحوظ جدًا في حلقات “لام شمسية”، حتى وإن وقعت قليلًا، فالنتيجة النهائية عمل درامي يتبع خطوات السيناريو دون الإخلال بها.

البطل الحقيقي المخفي

المعادلة البسيطة لخلق بطل في أي قصة هي أن يكون غارقًا في مستنقع الراحة السلبية، ثم يحدث حدث يُغيّره، ويصبح على أثره بطلًا. وإذا طبقنا تلك المعادلة على شخصيات المسلسل، فلا يوجد سوى طارق “أحمد السعدني”، الذي تُطبَّق عليه تلك المعادلة بسهولة، فهو شخص غارق في ملذّاته مع عشيقته، ويُحمّل زوجته مسؤولية تربية ولده من زوجته السابقة، ويُحمّل صديقه وسام “محمد شاهين” مسؤولية دور الأب، حتى يكتشف أنه يعيش داخل كذبة، وعليه أن يتغير في سبيل إنقاذ ابنه من صديق عمره المتحرش بابنه. فيبدأ رحلة التغيير من رجل خائن غير مسؤول إلى رجل يعرف كيف يتحمل المسؤولية من أجل ولده وزوجته الصادقة.

والحقيقة أن “أحمد السعدني” أدى دوره ببراعة جعلت له أخيرًا حظًا من تسليط الأضواء، وهذا يرجع إلى اختياره لهذا الدور المهم في مسيرته، وكذلك في تسكين الدور أصلًا من البداية، وأخيرًا لـ”كريم الشناوي” الذي يعرف كيف يستغل موهبة بهذا القدر.

الشيطان يعظ

أصعب ما يمر به اليتيم هو فقدان الدعم والإحساس بالعائلة، وهذا ما شعر به "طارق" في رأيي، لفقدانه أبيه وأمه. ومحاولته لتعويض ذلك جاءت عن طريق صديقه وسام “محمد شاهين” ووالدته نادية “صفاء الطوخي”. ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن وسام كمَن في نفس "طارق"، الذي كان ضالته منذ الشباب، واستغل وسام وضع طارق الصعب كونه لا يملك حوله أحد، وأصبح مرشده الذي يُخفي أسراره ويتحكم بحياته بذكاء شديد حتى يقتنص الفرصة ويهجم على فريسته “يوسف” ابن "طارق" الذي قام بدوره الطفل الموهوب "علي البيلي"، الذي لا يستطيع طارق أن يشكّ به؛ فهو مرشده وصديقه الوفي والمسؤول عن تربية ابنه. فأصبح صديقه، الشيطان الملازم له، الذي يعظه بما يخدم مصلحته.

وتجلّى ذلك المعنى في المواجهة الأولي المحتدمة بينهما بعدما اعترف "يوسف" ل"طارق" علي صديقه "وسام"، حينما قال "وسام" ل"طارق": “ماشي يا طارق، بس كدة هتبقى قطيعة معايا انا وامي”.

وهذه هي نقطة ضعف طارق من البداية.

حرفة "محمد شاهين" في أدائه لهذا الدور هي أنه استطاع أن يمزج بين مشاعر مختلفة في آن واحد بدون إخلال بطبيعته الإنسانية مشاعر مثل الحب الجارف لابنته والشهوة المسيطرة على عقله والسيطرة على زوجته والتلون بوجه ودود للسيطرة على صديقه "طارق" فأصبح شخصية حقيقية مؤذية من لحم ودم.

"نيلي": الأم التي تدافع عن المجتمع بأكمله

خصم نيلي "أمينة خليل" في الحدوتة ليس "وسام" فقط، وإنما مجتمع كامل يخشى من الفضيحة الأخلاقية فيسكت عن حقه، فيتصف بصفات الشيطان “وسام”. وهذه هي مواجهة "نيلي" الحقيقية: مواجهة المجتمع الذي يرفض إعلان الحرب على المجرمين ويفضّل “التكيّف”.

وفي هذا مبرر لدفاعها عن ولدٍ ليس بولدها، بل ابن زوجها الخائن.

وإن وضعنا هذا الموقف مع شخصية عادية مثل العوام الذين يخشون الفضيحة، فالاستغناء عن الولد والزوج هو الخيار الأمثل دون ذرة ندم.

لماذا تتحمل مسؤولية لابن زوجها الخائن؟ تلك التفصيلة هي الأهم في القصة، وربما الأهم في جعل العمل دراميًا وليس مباشرًا كما ذكرنا سلفًا.

أدت "أمينة خليل" الدور بشكل جيد وبسهولة نظرا لأنها تلعب في ملعبها الذي تجيد اللعب فيه فهي البطلة التي لعبت كل الأدوار في الأعمال التي ذكرناها في بداية المقال ولذلك لابد من التغيير الجذري في الأدوار المستقبلية لها.

الأداء الأصعب

كثيرًا ما نسمع الجملة المبتذلة الأشهر من النقاد: “الممثل متمكن من أدواته”، ولا نعرف ما هي تلك الأدوات.

والحقيقة أن أهم تجسيد بالنسبة لي في ذلك العمل كان لـ”يسرا اللوزي” في دور “رباب”، لأنها في حقيقة الأمر متمكنة من أدواتها.

وأدوات الممثل تكون: نبرة الصوت، الحوار،نظرات العيون، الحركات الجسدية، وتعابير الوجه.

وزادت السخرية من دور"يسرا اللوزي" على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب عدم نطقها أغلب الوقت، ولا يوجد أصعب من أن تُعبّر بدون كلام.

لذلك، دورها هو الأصعب؛ فهي تجسد شخصية تعاني صدمة نفسية قوية دون أن تعبّر عنها بالكلام، واستطاعت “يسرا اللوزي” فعل ذلك بمهارة وصلت لكل المتابعين فقط من خلال تعابير وجهها.

الصورة البصرية

منذ عامين، ذكرت في مقالي عن “الهرشة السابعة” تكنيك “كريم الشناوي” في رسم الحدوتة كاملة من خلال الصورة، وقلت: “جرّب أن تكتم الصوت وتشاهد، وسوف تفهم الحكاية كاملة”.

كذلك هو الحال في “لام شمسية”، يستخدم كريم لغة الصمت بمونتاج ذكي، وزوايا تصوير محددة، وإضاءات مختلفة، لرسم حالة كل شخصية وانفعالاتها داخل كادر مصنوع كلوحة.

وهذا هو الأصل في الدراما، كما ذكرت سلفًا: التعبير بالصورة والتكوين البصري فقط، كما بدأ فن التشخيص في العصور الأولى في المسرح الإغريقي القديم، لأن الدراما جاءت قبل اللغة تاريخيًا، ومن ثم جاءت فكرة السينما الصامتة.

ولعل ذلك سبب براعة تفوق “يسرا اللوزي” في هذا العمل، لخلفية المخرج المهتم بالصورة قبل الكلام.

في النهاية، يتركنا العمل مع المعركة الكبرى: المعركة مع المجتمع الذي يفضل التأقلم على المواجهة، ويختار القبوع في أحضان الجريمة خشية من السخرية.