أثارت تسميةُ أبي العلاء شرحَه ديوانَ المتنبي "مُعجِز أحمد" ردّات فعل متباينة ولا تزال، ففي حين يقف كثير من المتلقّين موقفاً محايداً أمام عنوان شرح ديوان الشاعر العربي الأشدّ تأثيراً على مرّ العصور، تذهب طائفة من المغالين في عشق المتنبي إلى أن التسمية مستحَقة تماماً بالنظر إلى فرادة الشاعر الاستثنائي؛ وفي المقابل يرى آخرون أن التسمية مبالَغٌ فيها. الطائفة الأخيرة تنقسم بدورها إلى فئتين متباينتَي الدوافع تماماً، فواحدة ترفض الاسم لأنها لا ترى المتنبي أفضل شعراء العربية بصفة مطلقة، حتى إذا لم تكن تجادل في كونه شاعراً عظيماً، وعليه فإنها لا ترى في ديوانه ما يستحق وصفه بالإعجاز؛ أمّا الطائفة الثانية فهي تتحفّظ على التسمية من منطلق ديني خالص، فالإعجاز في تقديرها إنما هو حصري على ما هو سماوي من لدُن الخالق وليس من عند أيٍّ من البشر مهما يكن استثنائيّاً؛ وحين يكون سياق الإعجاز لغوياً صرفاً - ومع اللغة العربية تحديداً – فإن المقام لا يسمح لدى الطائفة الأخيرة بأي تهاون مع التسمية لغير القرآن.
مقابل أولئك وهؤلاء، هناك من يرى بأن المعري لم يُرد أصلاً أبا الطيب المتنبي بـ "معجز أحمد" وإنما أراد غيرَه، كما أن هناك من أصرّ على أن النسخة التي بين أيدينا إنما هي لشرح آخر من قِبل المعري نفسه لديون أبي الطيب بعنوان "اللامع العزيزي" وليس "معجز أحمد"؛ وهناك من شكّك في أن النسخة هذه – أياً يكن اسمها - تخص أصلاً أبا العلاء المعري. ثم راجت منتصف الثمانينيات الماضية نسخة الديوان بتحقيق الدكتور عبد المجيد دياب فتقبّلها جمهور العامة وكثير من الخاصة قبولاً واسعاً كونها نسخة أبي العلاء وبعنوان "معجز أحمد"، على اعتباره العنوان الذي يخصّ هذه النسخة من شرح ديوان المتنبي وليس أي شرح لديوان أحمد آخر من الشعراء؛ وذلك دون أن ينتهي الجدال حول "معجز أحمد"، سواء من حيث العنوان أو نسبة الشرح إلى أبي العلاء أو حتى المقصود بأحمد من الشعراء.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: مسؤولية المرأة عن صورتها في دراما رمضان
بكل ما سبق في الاعتبار، وبعيداً عن الإسقاطات الدينية المغالية كون سياقنا هذا يتعلّق بما هو بشري صرف من المقارنات، حتى إذا كانت خلفية المعري الفكرية تغري بتخيّل مناوشة متعمّدة لما هو عقائدي من وراء التسمية؛ وباستصحاب الآراء المتباينة جميعاً، وددتُ لو أن أبا العلاء سمح لي باستعارة عنوانه هذا، بل بسحبه من الشاعر الأشد تأثيراً في تاريخ العرب الأدبي لإطلاقه على ما أراه بدوري الشاعر الأشدّ براعة وأغنى إبداعاً في التاريخ الأدبي نفسه، فيصبح بذلك "معجز أحمد" عنواناً مستحقاً لـشرح "الشوقيّات" أكثر مما هو عليه الحال مع شرح ديوان المتنبي.
تُرى هل كان المعرّي سيسمح فعلاً بذلك لو أتيح له الاطّلاع على ديوان شوقي ومقارنته بأثيره المتنبي الذي قيل إنه كان عندما يذكره يشيره إليه بقوله "الشاعر" فحسب في حين يعرّف الشعراء الآخرين بأسمائهم مجرّدة أو ألقابهم التي هي لا ريب دون منزلة الإعجاز فيما تحمله من الدلالات؟
لا أعتقد أنني بحاجة إلى أن أغرق في البحث والتحليل للإجابة على السؤال الافتراضي/الجدلي أعلاه، فالأرجح أن المعري لم يكن ليبدو أقلّ تعصّباً بحال للمتنبي حتى في حضرة السطوة الفنية الاستثنائية التي أزعمها لأحمد شوقي إذا سنح لأبي العلاء أن يطّلع على تفاصيلها؛ فإذا كان حضور المتنبي اليوم – إضافة لكونه بداعي براعته الفنية العظيمة – يعود إلى تأثير القرون وفتنة ما هو قديم على الناس، فإن هالة المتنبي الساحرة هذه من الواضح أنها كانت طاغية على وجدان جماهير الشعر العربي من العامة والخاصة منذ القدم، بل حتى في حياة الشاعر العظيم، رغم كثرة معارضيه وشدة خصومتهم له، بل إن كثرة المعارضين والخصوم الألِدّة ظلّت في ذاتها بمثابة الدليل الموازي – إلى جانب الكثرة الطاغية للمعجبين المفتونين – على عبقرية الحالة الشعرية الفريدة للمتنبي بشقّيها الفني الخالص والذاتي البحت الذي يسفر عن شخصية يبدو أن أسطوريّتها في الوجدان العربي كانت مسألة لا مناص منها.
سأراعي إذن مشاعرَ أبي العلاء كما افترضتُها من حيث انحيازه للمتنبي على حساب شوقي، وسأراعي كذلك حقوق الملكية الفكرية حتى إذا لم يكن أبو العلاء قد سجّل براءة اختراع للعنوان بوصفه علامة تجارية تخصّه. لن أقوم بانتزاع العنوان من شرح ديوان المتنبي لوضعه على شرح مفترَض للشوقيّات؛ غير أنّي لن أتورّع عن التأكيد مجدداً بأنه إذا كان شعر أيٍّ من الأحمدَين – أو غيرهما – يستحق وصفه بالمعجز فهو لا ريب شعر أحمد شوقي على نحو ما سنرى في القادم من تذوّقنا لنُتَفٍ من الشوقيّات.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])