وتمامُ فضلك أن يعيبك حُسَّد ** يجدون نقصاً عند كل تمام
المال في الدنيا منازل نُقْلة ** من أين جئت له بدار مقام؟
فرفعتَ إيواناً كركن النجم لم ** يُضرب على كسرى ولا بهرام
صيَّرتْ طينتَه الخلود وجئت من ** وادي الملوك بجندل ورغام
هذا البناء العبقري أتى به ** بيتٌ له فضلٌ وحق ذمام
كانت به الأرقام تُدرَك حِسبة ** واليوم جاوزَ حسبة الأرقام
يا طالما شغفَ الظنونَ وطالما ** كثر الرجاء عليه في الإلمام
ما زلت أنت وصاحباك بركنه ** حتى استقام على أعزّ دعام
أسّستمُ بالحاسدين جداره ** وبنيتمُ بمعاول الهدام
شركاتك الدنيا العريضة لم تُنَل ** إلا بطول رعاية وقيام
الله سخَّر للكنانة خازناً ** أخذ الأمان لها من الأعوام
وكأن عهدك عهد يوسف كلّه ** ظلّ وسنبلة وقطر غمام
وكأن مال المودعين وزرعهم ** في راحتيك ودائع الأيتام
ما زلت تبني ركنَ كل عظيمة ** حتى أتيت برابع الأهرام
هكذا كان ينظم الأميرُ شعرَ المناسبات، ذلك الغرض الذي يعيبه كثيرون لا سيما أرباب الحداثة على اعتبار أن الغاية من الشعر في الحياة أسمى من أن تكون مجرد احتفال بحدث موسميّ عارض؛ وعندي أن غاية الشعر هي أن يكون شعراً سواءٌ على صعيد الاحتفال بما هو عارض من المناسبات أو فيما هو أعمق أثراً من الأحداث/الحوادث الإنسانية الخطيرة والأفكار الوجودية المجردة.
أن يكون الشعر شعراً لا تعني سوى التماس قيمة الشعر في شعريّته بصرف البصر عن أغراضه؛ ومن الطبيعي أن نختلف في تفسير المراد بالشعريّة، وقد أومأنا إلى ذلك في "التفتيش في قلب المتنبي"، ولا أودّ في هذا المقام تناول شيء من ذلك الاختلاف بالمزيد من التعقيب سوى التأكيد على تنحية معيار الغرض الشعري عن الشعريّة باعتبار أن الشعر قابل لأن يتناول كل مواضيع الأدب والحياة دون استثناء؛ بل سأزايد فأقول بأنه إذا كان لا بدّ من إدخال الموضوع/الغرض في جملة معايير تقييم الشعرية، فإن أحداثاً عابرة كمناسبة افتتاح مصرف لا يجب أن تُعدّ محرّماً/تابُواً شعريّاً بقدر ما ينبغي النظر إليها بوصفها تحدّياً مضاعفاً أمام الشعرية يسمو بها إذا أفلح الشاعر في اجتياز ذلك التحدّي فخرج من خلاله بالمناسبة العابرة لتصبح قيمة إنسانية باعثة على التأمّل واستخلاص العبر الفكرية والوجدانية.
ألم يفعل شوقي ذلك بمناسبة افتتاح دار جديدة لبنك مصر؟ بلى، والشاهد الأبياتُ التي افتتحنا بها هذا المقال والتي تُتلى إلى اليوم بعد مائة عام تقريباً على نظمها بداعي شعريّتها السامية أفكاراً وأسلوباً ووجداناً. نقع في القصيدة على الحكمة الرفيعة، والمحسنات اللفظية والمعنوية، والإحالات التاريخية، والإشارات الدينية، وتنويع/حُسن التقسيم، والانتباه إلى تفاصيل موضوع المناسبة وليس مجرد الاكتفاء به عنواناً لمحتوى فضفاض؛ ونلمس في القصيدة الألفاظ المنتقاة بغربال معجمي دقيق، مستعذبين موسيقى الألفاظ والجُمل المقطّعة والمتدفّقة بما يحملنا على مواصلة الترنّم طرباً بالقصيدة في نفَس واحد إلى آخر أبياتها؛ كل ذلك في عمل شعري نُظم وألقِي في مناسبة تجسّد معنى ماديّاً صرفاً إذا نُظِر إليه من الخارج، ولكن الأمير يعرف كيف ينتزع من المعاني المادية المباشرة (المال) ما يغدو خالداً على صعيد القيم الأخلاقية والبواعث الوجدانية والإحساس الفني بالجمال.
ليست الأبيات السابقة المختارة فحسب، وإنما بيوت القصيدة كلها مما يستحق الوصف أعلاه؛ فقبلها يقول شاعرنا مخاطباً مصر في البيت الأول من المقتطف التالي الذي يخرج بعده من ضيق المناسبة شديدة الخصوصية إلى مضامين رحبة في الاعتزاز بالتاريخ المصري الفريد:
جرّبتِ نُعمى الحادثات وبؤسها ** أعلمتِ حالاً آذنت بدوام؟
عبست إلينا الحادثات وطالما ** نزلت فلم نُغلَب على الأحلام
وثبتْ بقوم يضمدون جراحهم ** ويرقِّدون نوازى الآلام
الحق كل سلاحهم وكفاحهم ** والحق نعم مثبِّتُ الأقدام
يبنون حائط ملكهم في هُدنة ** وعلى عواقب شحنة وخصام
قل للحوادث أقدمي أو أحجمي ** إنا بنو الإقدام والإحجام
نحن النيام إذا الليالي سالمت ** فإذا وثبن فنحن غير نيام
وهذه قطعة فنية بديعة أخرى من القصيدة/المناسبة ذاتها ينطبق عليها ما سبقت الإشارة إليه من الخروج من ضيّق المقامات المعنوية إلى رحبها، ومن إكساب الفخر الذاتي – الذي يفضي عادةً إلى الضجر والاتّهام بالغرور البغيض – إيحاءات بلاغية وإحالات تاريخية تجعله مستساغاً ببراعة الفكرة المجددة والصياغة المحكمة والموسيقى المتدفقة في عذوبة من الصعب أن تكون محلّ جدال:
فينا مِنَ الصَبرِ الجَميلِ بَقِيَّةٌ ** لِحَوادِثٍ خَلفَ العُيوبِ جِسامِ
أَينَ الوُفودُ المُلتَقونَ عَلى القِرى ** المُنزَلونَ مَنازِلَ الأَكرامِ
الوارِثونَ القُدسَ عَن أَحبارِهِ ** وَالخالِفونَ أُمَيَّةً في الشامِ
الحامِلو الفُصحى وَنورِ بَيانِها ** يَبنونَ فيهِ حَضارَةَ الإِسلامِ
وَيُؤَلِّفونَ الشَرقَ في بُرهانِها ** لَمَّ الضِياءُ حَواشِيَ الإِظلامِ
تاقوا إِلى أَوطانِهِم فَتَحَمَّلوا ** وَهَوى الدِيارِ وَراءَ كُلِّ غَرامِ
ما ضَرَّ لَو حَبَسوا الرَكائِبَ ساعَةً ** وَثَنوا إِلى الفُسطاطِ فَضلَ زِمامِ
لِيُضيفَ شاهِدُهُم إِلى أَيّامِهِ ** يَوماً أَغَرَّ مُلَمَّحَ الأَعلامِ
وَيَرى وَيَسمَعُ كَيفَ عادَ حَقيقَةً ** ما كانَ مُمتَنِعاً عَلى الأَوهامِ
مِن هِمَّةِ المَحكومِ وَهوَ مُكَبَّلٌ ** بِالقَيدِ لا مِن هِمَّةِ الحُكّامِ
مِصرُ اِلتَقَت في مِهرَجانِ مُحَمَّدٍ ** وَتَجَمَّعَت لِتَحِيَّةٍ وَسَلامِ
هَزَّت مَناكِبَها لَهُ فَكَأَنَّهُ ** عُرسُ البَيانِ وَمَوكِبُ الأَقلامِ
وَكَأَنَّهُ في الفَتحِ عَمّورِيَّةٌ ** وَكَأَنَّني فيهِ أَبو تَمّامِ
أَسِمُ العُصورَ بِحُسنِهِ وأَنا الَّذي ** يَروي فَيَنتَظِمُ العُصورَ كَلامي
شَرَفاً مُحَمَّدُ هَكَذا تُبنى العُلا ** بِالصَبرِ آوِنَةً وَبِالإِقدامِ
هِمَمُ الرِجالِ إِذا مَضَتَ لَم يَثنِها ** خدعُ الثَناءِ وَلا عَوادي الذامِ
في "شوقي شاعر العصر الحديث"، طبعة سنة 2010 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، ضمن مشروع مكتبة الأسرة، يقول شوقي ضيف: "وكان ينظم في المناسبات المختلفة، في الرثاء، وفي المخترعات، وفي أعمال البرّ، وفي المنشآت القومية. وكل ذلك من أثر الجماهير والاتصال بها عن طريق الصحف ومخاطبتها. وارتفع بشعر المناسبات إلى القمة التي كانت تنتظره، وكأنه يختم دورته في شعرنا الحديث، فقد حقق له كل غاياته وأهدافه، ولم يعد لأصحابه من بعده إلا أن يقعوا في السفح من دونه، ويرتطموا بصخوره".
تلك لمحة موفّقة من الناقد العملاق، ولكنْ ظلّ نقاد شوقي عموماً في أفضل حالاتهم وهم يذودون عنه إزاء "تهمة" شعر المناسبات كما لو كانوا يتعاطفون معه في حذر؛ يحاولون تبرير القصائد المتهَمة بقيمتها الفنية الرفيعة من حيث الصياغة والأفكار/الحِكم، كأنما يلتمسون بذلك فيما بينهم سبيلاً إلى الغفران من تلك "الخطيئة" الشعرية.
المناسبات جزء أصيل من حياة الناس، والاحتفال بها عادة طبيعية/حتمية، ربما بصورة أكثر خصوصية لدى الأمم الشرقية؛ والشعر يعكس حياة الأمة (وهذه ليست وظيفته كلها، أو حتى أهم وظائفه، بطبيعة الحال)، فما الخطيئة إذن في أن ينظم شاعرٌ احتفالاً بمناسبة؟ أليست العبرة كما سلفت الإشارة بقيمة النظم مضموناً وشكلاً شعريّاً؟ كيف كان مضمون أشعار مناسبات شوقي وشكلها؟ تلك هي الأسئلة التي نحكم عبر مثلها على شعر المناسبات، سواءٌ لدى شوقي أو عند غيره؛ ومن الحكمة أن نتذوّق مليّاً بكل ما أوتينا من حواس – على صعيد فنون النقد وفي مقامات الحياة على اختلافها - قبل أن نهرع إلى إصدار أحكام من الضروري أن نتذكّر دوماً أنها جميعاً قابلة للنقض والاستئناف.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])