لم يتصدر مرشحو الحزب الوطنى نتائج الانتخابات إطلاقًا كما لم يتفوق فيها السلفيون أيضا، لكن أيضا لم يظهر نجاح مبهر لمرشحين محسوبين على ثورة يناير ولا حتى وجوه من رجال ثلاثين يونيو.
لكن الصوت العالى فى المرحلة الأولى وإعادتها هو الصوت الكاره بل والمعادى لثورة يناير.
الإقبال ضعيف ومحدود، ونزل فقط حتى الآن المتحمسون للعداء لا الساعون للإصلاح، المذعورون على البلد لا الواثقون من مسارها، الخائفون من المستقبل لا المطمئنون للغد.
أما الذين لم يذهبوا للانتخابات فهم أولئك الغاضبون بلا ذرة من إيجابية، الناقمون دون أى رؤية، العدَميون بلا أى إيجابية، المحبَطون دون أى رغبة فى تغيير أسباب الإحباط.
لهذا كانت انتخابات المرحلة الأولى عدائية جدا مع ثورة يناير، ثورة يناير لا يجب أن تكون أبدًا بقرة مقدَّسة يهيم بها البعض تقديسًا وتنزيهًا ويحولها إلى ثورة ملائكة فى مواجهة شياطين أو حلم مثالى عظيم، لم تكن أيًّا من ذلك بل خابت مطالبها فى النهاية نتيجة كل هذه الأوهام التى سكنت عقول محبّيها أو من مدَّعى الانتماء إليها، لكن ثورة يناير كذلك ليست حائطًا مائلا ولا مؤامرة كارثية، ولا يجب أن تكون هدفًا لعداء مخبولين بالنظام القديم أو عملاء لأجهزة أمنية تنتقم ولا مجموعات من كارهى نماذج وشخصيات حسبوها من فرط السذاجة على ثورة يناير.
لكن ما يجرى من إعلام غوغائى وحملات انتخابية على وسائل التواصل الاجتماعى أو سُباب ولعنات ضد مرشحين ينتسبون لها من منافسين ورضاء معلن وواضح ومشجع ودافع من أجهزة دولة لهذا الهجوم الأهبل على ثورة يناير، إنما يسحب شرعية الحكم كله، والذى يعتقد أن ثورة ثلاثين يونيو رغم أنها فى اعتقادى كانت أهم وأقوى وأعمق وأكثر تمثيلاً لكل قطاعات الشعب من ثورة يناير، فإنها لا يمكن أن تمثل شرعية سياسية ولا شعبية للحكم ومؤسساته إلا انطلاقًا واستنادًا واعتمادًا وشراكة مع ثورة يناير.
ثورة يناير كانت ضد الاستبداد السياسى وثورة يونيو كانت ضد الاستبداد الدينى، فأى منتصر للثانية على حساب الأولى هو فى الحقيقة ينتصر للاستبداد السياسى، والعكس طبعًا واضح، فالذى يريد أن ينكر أو يتجاهل ثلاثين يونيو كأنما يوافق ويرضى على أن الديمقراطية يمكن أن تجلب الفاشية الدينية وتقتضى القبول بها.
عند الانتخابات، الذين يؤمنون بالثورتين حقًّا يتعرضون لهجوم مذهل من عقول خرِبة من الوعى، تهجم على يناير تشفيًا أو انتقامًا، بالضبط كما فعل البعض من مؤيدى يناير فى الهجوم الأحمق على أى شخصية ارتبطت بالعمل العام قبل يناير وكأنها موصومة باللعنات والرفض.
هكذا فالذين تعرضوا للطعن فيهم باعتبارهم فلولاً كما وصفتهم أبواق يناير النزقة المهبولة، ينتقمون عبر خلل وخطل عقلى غير مسبوق بالطعن فى يناير، كأن متطرفى الفلولية فى مواجهة مخبولى الثورجية فى لحظة مواجهة، فانطلق الطرف الأول للصناديق بينما اكتفى الطرف الثانى بالشتائم على النت، واستسلمت الكتَل السائبة الطيبة حسنة النية من الطرفين للحرب العدمية التى يشعلها الكره والجهل!
أحب أن أشارككم هذه المأساة لكل صناديق التصويت المصرية منذ يناير حتى الآن، إن العاطفة هى التى تنتخب وليس المصلحة.
جرّب تسأل أى شخص: إنت انتخبت مين فى انتخابات رئاسة 2012 أو برلمانها؟ فستجده يجيبك بأنه انتخب فلانا وزوجته انتخبت علانا وابنه انتخب مثل أمه والبنت انتخبت أحدًا ثالثًا، والابن الثانى قاطَعَ، وجرب اليوم أن تسأل نفس السؤال لانتخابات 2015، تلاقى الأب الذى ذهب وصوّت لمرشح، والأم ذهبت وصوّتت لمرشح آخر، والابن الذى كسّل والبنت التى لم تركز أن فيه انتخابات، وابن العم الذى لا يعرف مَن المرشحون! هذا لا يمكن أن يحدث فى عائلة تنتخب من أجل مصلحتها أبدا، بل ينتخب كل واحد فيها بعاطفته وليس مصلحته فى فوز مرشح؛ لأنه شُفْنا العائلة الواحدة التى يحكمها ظرف اقتصادى واحد، سواءً كانت عائلة فقيرة مش لاقية تاكل، أو غنية ثرية لاقية تتفسح وتتدلع ومع ذلك فإن أفرادها يختلفون فى الإقبال على التصويت أو فى التصويت لمَن.
إذن كلهم مصلحة واحدة
وطبقة واحدة
وثقافة تقريبًا واحدة،ومع ذلك موقفهم أو تصويتهم مختلف بل ومتناقض تمامًا.
لماذا؟
لأن وعيهم مختلف.
كل واحد بوعيه الذى يتكون من مزاجه ومعارفه واطلاعاته والبرنامج التليفزيونى الذى يفضّله ومَن المجموعة التى ينتمى لها أو يتعاطف معها.
ولأن الوعى يختلف ولأن وعى المصريين بعد ثورة يناير كان لا يزال يتشكل وفى مرحلة تكوين؛ فإنه يتحول ويهتز ويتغير ويتقلب وينضج، ومن ثم النتائج تتغير، ولا شك أن ملايين من المصوّتين فى الانتخابات والاستفتاءات الماضية قد غيروا رأيهم من النقيض للنقيض، وهو ما يؤكد تحول الوعى لا المصلحة، تبدل الوعى لا الطبقة.
لهذا يقتلون ثورة يناير أمام اللجان الانتخابية. هؤلاء الذين ينتمون لها ويدافعون عنها حين لا يشاركون، وأولئك الذين جعلوا من لعنها بضاعتهم اليومية حين يؤلبون العواطف ضدها!