تقدّم لنا الصحف والمواقع مادّتها الإخباريّة على هيئة أخبارٍ مُبَوَّبة، وهى ترى أن خدمتها لقارئها لا تتمثّل فقط فى تقديمها المعلومة الخبريّة ثم فى متابعة مستجداتها أولاً بأول، وإنما كذلك أن تصنِّف لهذا القارئ المفترَض هذه الأخبار، مثلما قد يفعل طاهٍ فرنسىٌّ مع وجبةٍ متعددة الأطباق والطعوم يريد أن يُتحفَ بها زبونه، فيقدّم له الأطباق طبقاً تلو طبقٍ، كلّاً على حدة، وكلّاً حسب دوره المقدَّر فى ترتيبٍ دقيق؛ الترتيب نفسه الذى قد تُولىٰ على أساسه بعضُ الأخبار الأولويّةَ على حساب بعض. وتصنيف الأخبار له بالطبع أكثر من زاوية نظر: محليّة وعالميّة مثلاً، داخليّة وخارجيّة، سياسيّة وفنيّة، محليّات، اجتماعيّات، حوادث.. الخ، حتى تلك الأخبار التى يتعذّر أن تُخضِعَها لأىٍّ من التصنيفات المسبقة، فإن الصحف تُفرِدُ لها باباً وَقْفاً عليها تدخل فى تسميته غالباً مفردات مثل ’منوّعات‘ أو ’متنوّعة‘ أو ما شابههما، والذى قد يحلو لى أن أقارنه بباب السلاطات فى لائحة الطعام عند الطاهى الفرنسىّ إيّاه. وعلى كلٍّ، فإن ’مَيْل‘ الإعلام عندنا للتصنيف هو نهجٌ عام، يبدأ من تصنيف الأخبار ثم لا يقف عند حدٍّ معين؛ فهو لا ينحصر فقط فى التبويب المقصود للأخبار، بل يتبدّى فى أشياءٍ أُخَر قد يظهر أنها غير مقصودةٍ أو منهجيّة. هذه التدوينة موضوعها هو أحد هذه الأشياء الأُخَر غير المقصودة وغير المنهجيّة كما تبدو، وهو الطريقة التى بها يُقدّم ’طبق‘ الحوادث للقارئ..
على ما يبدو فإن صياغة أخبار الحوادث تَلزَمُ مقاربةً واحدةً تجاه تعريفها بالمتهمين والجناة المحتملين وضحايا تلك الحوادث، هذه المقاربة تقوم –لسبب من الأسباب– على الأعمال التى يمتهنونها. وبصفتى قارئاً، فإن السؤال الذى أطرحه على نفسى هنا: ما علاقة كون الشخص سائقاً بإقدامه على الانتحار؟ لماذا لم يكن العنوان «انتحار زوج» مثلاً مادام السبب فى أنه انتحر هو الخلافات الزوجيّة؟ أو «جارٌ يذبح جاره» بدلاً من ’نجارٍ‘ هذه؟ أم أن ’سائق‘ و’نجار‘ شأنهما شأن ’عاطل‘ أو ’مدرّس‘ أو ’عامل‘ أو ’وكيل نيابة‘ لها دلالة ما بحد ذاتها؟ إذ أننا لو تأملنا حقاً فى هذه العناوين، ومن بعدها فى تفاصيل الحوادث التى تشير إليها، لن نجد ما يبرر أنها تُورِد مهنة المتهم –أو لا مهنته فى حالة العاطل– على رأس الخبر أو الحادثة. غير أن العُرف الصحفىّ السائد جعل من الإشارة إلى الناس حسب مهنتهم عندما نقرأ عن الحادثة أو نسردها أمراً عادياً، بل ويكاد يكون هو الطريقة الوحيدة فى التعريف بهم؛ حتى إننا أنفسنا –القرّاء– لم نعد نرى غرابةً فى هذا العُرف الذى فى حقيقته ليس إلا ممارسةً أخرى تصنيفيّة. فالتصنيف لنوعيّة الأخبار على أنها ’حوادث‘ هو التصنيف الأساسىّ، الذى منه تتشعّب تصنيفاتٌ أخرى فرعيّة، بحيث أصبح بالإمكان فرزه الآن إلى حوادث سائقين، وحوادث عاطلين، وحوادث مدرّسين، إلى آخره من المهن والحرف والأعمال النقابيّة وغير النقابيّة. هذا الفرز ليس فقط تنظيماً ذهنياً، ولكنه حافلٌ بتضميناتٍ وإيحاءاتٍ يستقبلها القارئ بوعىٍ أو دون وعى، وتجعله يتجاوب مع الخبر على نحوٍ أشبه بمسلسلٍ تليفزيونىٍّ يتفاعل مع شخصياته بالتعاطف وبالإدانة وبأخذ العبرة أو حتى بالشماتة أحياناً. ومثلما أن المتفرّج على المسلسل يجب أن يكون مندمجاً فى أجوائه خاضعاً للوهم الذى تخلقه الشاشة، كذلك القارئ لباب الحوادث تستلزم الحبكة الصحفيّة أن تكون الأمور واضحةً ومحسومةً له، لا مكانَ فيها للبدهيّات الأوليّة من قبيل أن المتهم برىءٌ حتى تثبتَ إدانته.
هذا النوع من التأثيرات ليس مجرّد أعرافٍ صحفيّةٍ اتُبِعَت ربما لأمدٍ طويل دون التوقّف عند مدلولاتها ومراجعتها. فالحال أنها حتى لم تبدأ فى الصحف السيّارة؛ لأننا نجد سابقةً لها فى مناهج التاريخ المقررة على التلاميذ الصغار؛ هذه السابقة دُرِّست لى أيامَ كنتُ تلميذاً بالمدرسة تحت عنوان: حادثة المكارى والمالطى. وهو عنوانٌ دالٌّ على الأشياء التى تُكوّن محور هذه التدوينة، والتى أراها أعمق من مجرّد الإشارة إلى المفعول المسلسلاتى لصياغات الحوادث..
قد لا نتصور أن هناك نهجاً ما فى حادثة تاريخيّة منذ عام 1882، وأن هذا النهج –القديم والعائد إلى الحقبة الاستعماريّة– يمكن أن يكون بينه وبين صياغات عناوين الحوادث –اليوميّة والمعاصرة– رابطٌ مستمرٌّ منذ ما يقرب من القرن ونصفٍ إلى يومنا هذا، لكنَّ الرابط فى رأيى باقٍ وأقوى ممّا نظن. فحادثة المكارى (أى الحَمّار) والمالطى (وهو شخص أجنبىّ من مالطا بطبيعة الحال) لا تُستحضر فى كتب التاريخ بالطبع على أنها حادثة عرضيّة قامت بالصدفة بين شخصٍ سكندرىٍّ اسمه السيّد العجّان يعمل حمّاراً وبين سائحٍ أجنبىٍّ لم تحفظ لنا الوثائق اسمه، وذلك عندما أدّى الخلاف بينهما على أجرة الحِمار إلى أن يستلَّ الأخير مُدْيَةً ويطعنَ بها الأول فيرديه قتيلاً، وإنما باعتبار أن كلّاً منهما يمثّل طرفاً فى الصراع الذى لا ينتهى والتاريخ التآمرىّ الطويل بين المصريين، متمثّلين وقتها فى جيش العُرابيين، وبين الكولونياليّة الغربيّة، متمثّلة هذه المرّة فى الأسطول البريطانىِّ الراسى أمام الثغر. هذا النهج فى تسمية الحادثة (وطرفى المذبحة التى ستدور على إثرها بين أبناء الإسكندريّة والرعايا الأجانب بها، والتى ستُتخذ ذريعةً للاحتلال البريطانىِّ لمصر فيما بعد) بأن نجعلها محدَّدةً بالهويّات، سواء بالانتماء لطائفةٍ مهنيّةٍ (كار الحمّارين وهم مصريون بطبيعة الأمور) أو رَعَويّةٍ (كون المالطىّ أحد الرعايا الأجانب) يجعلها تتعدّى كونها حادثةً فرديّةً إلى حدثٍ رمزىّ، لتأخذ مكانتها المفصليّة بعد ذلك فى سياق التاريخ.
على نفس نهج حادثة المكارى والمالطى، يمكن تفسير طريقة تقديم باب الحوادث فى الوجبة الصحفيّة اليوميّة المتنوّعة. فالمفترض أن الحوادث مادّتها الأساسيّة هى الجرائم، والجريمة فى جوهرها شىءٌ ضدَّ الإنسانية بحدّ ذاته، ولكن بدلاً من أن تكون هذه هى زاوية تناولها، ومثلما أن حادثة المكارى والمالطى أصبحت ’حدثاً تاريخياً‘ بفضل التركيز على هويّات أبطالها، فإن الأخبار عندما تُعرّفُ بأشخاصها من خلال انتسابهم إلى شىءٍ ما؛ وليكن مهنتهم تارة أو ديانتهم تارة أو أصولهم تارة، فإنها تعرض الجرائم كذلك على أنها ’ظواهر اجتماعيّة‘ لا مجرّد جرائم وحسب. فباب الحوادث، لسببٍ ما، تَقرَّر أنه المسرح المثالىُّ الذى يمكن أن تُقدَّم عليه دراما الصراعات اليوميّة بين فئات المجتمع بعضها بعضاً. نعم، فمثلما تخضع الأخبار للتصنيف من قِبل الصحيفة أو الموقع، كذلك المجتمع هو الآخر قد أصبح بأكمله موضوعاً لعملية تصنيفٍ واسعةٍ ومعقدة: طبقيّة، فئويّة، ثقافيّة، عرقيّة.. الخ. هذه الزاوية فى التناول تستدعى أن المتهمين أو الجناة المحتملين وكذلك ضحايا هذه الحوادث يحضرون فى هذه الصياغات ليس بصفتهم الإنسانيّة المجرّدة، وإنما من خلال ما ’يمثّلونه‘ من أطراف الصراع الطبقىّ أو الثقافىّ أو السياسىّ، أو التفاوتات الاجتماعيّة المختلفة فى مستويات الدخل أو التعليم أو السكن.
إن صياغة خبر أوّل جريمةٍ فى تاريخ البشريّة: «قتل قابيل هابيل» لا تصلح عنواناً لجريمةٍ من هذا النوع فى عصرنا ومجتمعنا الحالى، وبدلاً منها كانت الصحف ستخرج بعناوين من قبيل: أخٌ يقتل أخاه من أجل حب فتاة، أو ربما: راعى غنم يقتل مزارعاً نتيجة خلاف على أحقيّة القربان؛ وهى صياغةٌ ليست فقط أكثر إثارة، وإنما حافلةٌ بالإسقاطات. فالصياغة التى تستحضر القتل كما هو، أى باعتباره قتلاً للنفس الإنسانيّة، لم تعد تنفع عصرَنا. فشخصٌ يقتل شخصاً ليس خبراً أو طريقةً نقدّم بها حادثةً لقرّاء صحيفة؛ لأن الجريمة فى أيامنا وفى مجتمعنا لا بد أن تحضر بصفتها شيئاً آخر غير نفسها، كأن تكون إعادة إنتاجٍ لصراعٍ رمزىٍّ أكبر، وأن تُشَخْصِنَ أطرافُها هذا الصراع بين شرائحه الاقتصاديّة التى يطحن بعضها بعضاً، أو بين قواه السياسيّة التى تتناحر على السلطة، وذلك من خلال خلفيّاتها الاجتماعيّة وأدوارها الثقافيّة أو الاقتصاديّة فى المجتمع. وهكذا، فإن باب الحوادث لا يعود يبدو لى مجرّد تجميعٍ منظَّمٍ لأخبار الجريمة فى المجتمع، بل نوعاً من الأدب نشأ متأثّراً بالملاحم الإغريقيّة، حيث يخوض الأبطال صراعاتهم مثقَلين بالرموز ومحمَّلين بالإسقاطات، وحيث تأتى النهايات دائماً بمعانٍ أكبر من أهميّة المصائر الفرديّة للأشخاص.