صباح يوم 4 نوفمبر الجارى صدرت تغريدة على حساب سكاى نيوز العربى على تويتر، هذا نصها: «مراسلنا: 3 قتلى من أفراد الشرطة المصرية وإصابة 5 آخرين فى هجوم انتحارى بسيارة مفخخة بمحيط نادى ضباط الشرطة فى العريش» وعلى موقع القناة الفضائية نفسه جاء أنه: «قُتِل 3 أفراد على الأقل من الشرطة المصرية، وأصيب 5 آخرون، فى تفجير سيارة مفخخة عند بوابة نادى ضباط الشرطة فى العريش» وقد سارعت إلى نقل الخبر عنها مواقع أخرى مصرية، مثل موقع اليوم السابع: «سكاى نيوز: استشهاد 3 شرطيين وإصابة 5 فى هجوم بسيارة مفخخة بالعريش» وموقع الموجز: «سكاى نيوز: استشهاد 3 شرطيين وإصابة 5 فى هجوم بسيارة مفخخة بالعريش» ولم يختلف جوهر صياغة اليوم السابع كثيراً بعد تحديث الخبر اعتماداً على مصدر حدّده الخبر فى المتن على أنه: مسئول مركز الإعلام الأمنى بوزارة الداخلية. بينما أن موقعاً آخر –هو شبكة رصد– نشره منقولاً عن وكالة الأنباء الرسمية الشرق الأوسط، ومنسوباً إلى مصدر أمنى بنفس وزارة الداخلية أيضاً، كما يلى: «مقتل 3 شرطيين وإصابة 10 آخرين فى انفجار سيارة مفخخة بالعريش»
إن الطبيعة الجدلية لكلمات على غرار: استشهاد، مقتل، شهداء أو شهيد، وقتلى أو قتيل، إذا ما وُظّفت فى الإعلام؛ هى مسألة شبعنا كلاماً فيها فى مصر خاصةً أثناء ثورة 25 يناير ثم ما تداعى عنها من أحداث. لهذا فإننى لن أتعرض لتلك الجدلية فى حد ذاتها، وإنما سأستخدمها مثالاً فقط فى سياق الموضوع الأساسى الذى أنوى الكلام عنه، وهو إلى أى حد تُعتبر الصياغة الصحفية للخبر أمينة فى نقلها عن مصدر، ومدى احترام حق القارئ فى تلقيه الخبر مجرداً من التأثيرات والإيحاءات التى تُضمّن عادة عبر ’التصرُّف‘ فى مفردة أو أكثر من أصل الخبر أو عبر إعادة لصياغته برمّتها. ودعونا نأخذ سلسلة تناقُل الخبر السابق: قد يبدو لبعضنا أن استخدام مواقع مصرية لفظ ’استشهاد‘ فى تلك الحالة بدلاً من لفظ ’قتلى‘ الوارد فى صياغة وسيلة إعلامية أجنبية ناطقة بالعربية هو أمر مشروع، وربما يكون أيضاً كاشفاً بل فارزاً بين المواقع المصرية بعضها بعضاً، بحيث قد يبدو لنا بعضها مُغرِضاً، وذلك عندما يستخدم لفظ ’مقتل‘ بدلاً من ’استشهاد‘ فى سياق خبر كهذا الخبر. والحال أن هذا هو بالتحديد مربط الفرس فيما أود قوله: إن الخبر هنا بدلاً من أن يكون خدمة صحفية أمينة يُفترض فيها الدقة فى النقل والموضوعية، صار مجالاً منتَهكاً لبثّ رسائل ضمنية ودلالات وإيحاءات، تتكالب فيه وسائل الإعلام على عقل القارئ أو ربما عاطفته.
ولا ينبغى لنا –نحن القراء– أن نحسب مثل هذه التضمينات الموحية أو الموجِّهة ممارسةً قاصرةً على صياغات المواقع المصرية المحلية فقط، فالمسألة أكبر من ذلك. وكى أبدو منصفاً، دعونا نتجه إلى بداية السلسلة التى تتبعناها فى المثال السابق؛ نفس مصدر الخبر المنقول هناك: سكاى نيوز، وهى وسيلة إعلامية متمركزة فى بريطانيا تتخذ محطتها الناطقة بالعربية من أبوظبى مقراً. وحيث إن صياغتها للخبر الذى أوردَتْه عن حادث إرهابىّ بالعريش المصرية جاء على لسان مراسلها متضمناً وصف ’قتلى‘ لضحايا الحادث. فقد نفهم أن السياسة التحريرية للوسيلة الإعلامية العالمية هذه ربما تنتهج نهجاً ينأى بها عن أن تبدو متورطة فى تصنيف أطراف الحدث أو متضمنة لإيحاءات ودلالات معينة تؤثّر على المتلقى. حسناً، ربما قد ينطبق هذا بالفعل على الحالة المصرية، لكنه يصبح موضعاً للشك عندما ننتقل من سيناء إلى بقعة أخرى بالمنطقة لا تقل سخونة فى أحداثها، ألا وهى اليمن؛ مسرح عمليات ما أُطلق عليه ’التحالف العربى‘ –والمشاركة فيه الإمارات العربية بقوات– ضد الحوثيين. إذ نجد هناك أن كلمات مثل: استشهاد، شهيد، مستخدمة فى الأغلب الأعم، دون أن يبدو أن هناك أىَّ قيود تحريرية داخلية بالقناة عليها. وهذه بعض الأمثلة:
– استشهاد 15 من التحالف والمقاومة اليمنية بعدن
– السعودية: استشهاد قائد بقطاع حرس الحدود
– الإمارات والسعودية تعلنان استشهاد جنديين
– الإمارات تعلن “استشهاد 22 جنديا” فى اليمن
والمثال الأخير –وهو بتاريخ أقدم من سابقيه– نلاحظ فيه الحرص على وضع الصياغة ’الجدلية‘ التى تتضمن لفظ ’استشهاد‘ بين علامتى تنصيص، وهو الحرص الذى سيختفى بعد ذلك من معظم الأخبار المختصة بهذا البقعة الملتهبة من الشرق الأوسط، بينما سنظل نلحظه فى معالجة القناة لأحداث تحدث فى بقاع ساخنة أخرى مثل مصر، فلسطين، سوريا، … الخ. ودعونى أستفِد من أنها تدوينة تُقرأ عبر الإنترنت مباشرة وأعرض عليكم الذهاب إلى نتائج البحث فى حساب تويتر الخاص بالقناة عن كلمتى ’مقتل‘ و’استشهاد‘، بحيث تجدون تحت تصرفكم –لمن يشاء– مادة وفيرة للمقارنة بأنفسكم بين توظيفات هاتين الكلمتين فى وسيلة إعلامية واحدة.
أعلم أن هذه التدوينة قد تُغضب بعضنا نظراً للحساسية ولِكمِّ العزاء الذى قد نجده فى وصف ’الشهيد‘ وربما أيضاً حقاً واجباً علينا تجاهه، غير أننى لم أكن أناقش أصلاً الأحقية فى هذا الوصف (رحمهم الله ورحمنا جميعاً) وإنما أشير فقط إلى الانتقائية التى تشوب توظيف إيحاءات معينة من جانب وسائل الإعلام فى صياغة الأخبار؛ وكان الوصف ’شهداء‘ مثالاً لإحدى تلك الكلمات الموحية (وغيرها كثير وقد تكون موضوعاً لتدوينات قادمة) فبدلاً من أن تحافظ وسائل الإعلام على الفرق والتمييز الواضحين بين ما هو خبر وما هو رأى أو تأثير أو توجيه أو توعية أو إرشاد أو أياً يكون الاسم الذى تختاره لهذا النوع من التضمينات، والذى أرى أن يكون مكانه المقال أو فقط صفحة الرأى والتعليق، فإنها تبثه أيضاً فى تلافيف الخبر من خلال صياغته صياغة موحية. بهذا لا يعود الخبر مجرد معلومة أو حقيقة أو حدث يتلقاه القارئ فى صورته المجردة الخام؛ فيشكلّه هو حسب قراءته الشخصية له وخلفيته المعرفية واعتباراته الثقافية وانتماءاته الفكرية والمذهبية، بل يأتيه جاهزاً ومُقشّراً ومُحضّراً ومحشواً بالرسالة المطلوبة. وبصفتى قارئاً، فإنى أقيس احترام الوسيلة الإعلامية لعقلى بالمساحة التى تفصل بها بين الخبر و’غير الخبر‘، وإلا فإن النتيجة لن تكون إلا توجيهاً والتباساً لعقل متلقيها؛ وهى نتيجة تناقض ما يُفترض أن تكون عليه رسالة الإعلام.
تلك الصياغات التى تحاول أن تكون ’موحية أو موجهة‘ لقارئها، فكّرتُ أن أصفها بـ”المرجوشية” نسبةً إلى ’شريف المرجوشى‘؛ أحد الشخصيات الثلاثة الرئيسية بفيلم ’مواطن ومخبر وحرامى‘ للمخرج داود عبد السيد، وهو شخصية الحرامى تحديداً والتى يقدمها لنا الفيلم فى مشهد مهم. فالمرجوشى هذا يتضح لنا أنه ليس مجرد حرامى، بل حرامى قارئ للروايات، وهو أيضاً صاحب منظورٍ قِيَمِىٍّ دينىٍّ يُسقِطه على قراءته لتلك الروايات، حتى تلك المترجمة منها مثل الفرسان الثلاثة ومغامرات أرسين لوبين، مستنِداً إلى ترجمات ركيكة لا تقلّ عنه ’مرجوشيةً‘ أَقحَمت عبارات إيمانية إسلامية على النص الأصلى لمغامرة ذلك ’اللص الفرنسى الظريف‘. هذا المنظور القِيَمِىٍّ سيجعله يصطدم مع المواطن فى بداية علاقتهما عندما حاول الحرامى أن يجبر المواطن على تضمينه داخل روايته، بحيث تكون رواية أخلاقية تعظ قارئها وتحضّه على الفضيلة. فأنا أرى أن “المرجوشية” هنا إشارةٌ رمزيةٌ ملائمة لذلك النوع من التدخلات؛ تدخلات المترجم أو صاحب الصياغة، ليأتى الكلام فى نسخته المحرّفة متماشياً مع حُكْمِه هو القِيَمِىِّ، وربما ممازِجاً أو مراعياً لذوق فئة معينة يخاطبها.