مازلت أذكر هذه القصة جيداً، ربما لن أنساها حتي تكف الدماء عن السير في طريقها المحتوم داخل عروقي.. إنه قريبي الريفي الذي كنت أراه كثيرا في منزلنا.. إنه يأتي لمقابلة والدي “رحمه الله” ليتحدثوا معاً في أمور كثيرة لا أعرفها كلها.. فقط أعرف حين أراه أنني سأتعرض لسلام حار .. و ربما العديد من الاختبارات من عينة : إنت عارف أنا أقربلك ايه؟ طب عارف إبن عم أبوك يبقي مين؟! ..
كنت قد أنهيت فترة الامتياز و صرت طبيباً مقيماً بقسم جراحة المسالك البولية ، و هو شرف لو تعلمون عظيم لمن كان مثلي يعشق الجراحة وقتها و يقدس الجراحين ، لقد أصبح الجميع يتعاملون معي كطبيب للمسالك.. دون ان أمتلك أي فكرة عنها تقريبا..،فلم يمض علي إستلامي العمل سوي أيام معدودة..
لا يعرف قريبي هذه المعلومة.. إنه يعرف فقط أنني أصبحت “دكتور مسالك”.. و هذا يعني أنني أستطيع بالتأكيد أن أكتب علاجاً لأخيه الذي يعاني من مشاكل في البول منذ فترة طويلة .. لقد إحتار طبيب الوحدة في أمره..
يسلمني في يدي ورقة تحمل تحليلا للبول وهو يبتسم:
– شوفلنا التحليل ده والنبي يا دكتور و إكتبلنا علاج بقي..
والواقع أن هناك علاقة غامضة بين المريض الريفي و تحليل البول!!.. فهو يظن دوماً أن ألغاز الكون كلها سيكشف غموضها هذا التحليل البسيط..فضلاً عن ذلك الشغف لدي جميع المرضي الذي يجعلهم يتوقون للحصول علي علاج من أي نوع كلما رأوا طبيبا .. إنه نوع من الاستخسار الذي يمارسونه باستمتاع شديد!!
أنظر الي التحليل في يدي .. هناك الكثير من النقاط التي لا أعرف مغزاها بعد.. و لكن كبرياء الطبيب الذي يعرف كل شيء يمنعني عن الافصاح بجهلي و قلة خبرتي.. أتناول قلماً لأخط به علاجا رأيت الاطباء المقيمون الأكبر سناً يكتبوه في العيادة الخارجية للمرضي كثيراً.. إنه مسكن قوي .. يبدو أنه علاجا فعالاً.. !
يشكرني قريبي بحرارة ، ثم ينصرف فخوراً بقريبه “دكتور المسالك”
شهران قد مرا علي هذا الموقف الذي كنت قد نسيته تماماً.. حتي رأيته علي باب العيادة الخارجية بالمستشفي الجامعي .. إنهم يحملونه لأنه لا يقوي علي السير.. أنظر الي وجوه المرافقين له فألمحه .. إنه قريبي الذي أراه في منزلنا و لا أعرف بالتحديد صلة القرابة.. يراني فيهتف كمن وجد ضالته
– الحمد لله اني لقيتك يا دكتور.. أخويا تعبان قوي..
أنظر الي أخيه المنهك امامي … ثم أباشر الكشف عليه لأكتشف الكارثة..!
إنها درجة متقدمة من سرطان المثانة.. تلك الدرجة التي لا يصلح معها إجراء الجراحة اللازمة لإستئصال الورم ، فيقرر الجراح أن يتم تحويل المريض الي العلاج الإشعاعي الذي يقضي عليه ربما بصورة أسرع من السرطان ذاته
– الراجل كان إرتاح علي علاج حضرتك جداً يا دكتور .. مش عارفين إيه اللي حصل له!!
أتأمل وجهه و أنا لا أجرؤ علي التفسير…إنه لا يعرف أنني كنت سببا في اختفاء الأعراض الأولي للمرض بتلك المسكنات اللعينة التي كتبتها له.. أو بالأصح كتبتها لتحليل البول الخاص به..! لا يعرف أنني كنت سبباً مباشراً أن إنتشر المرض اللعين في جسده حتي بات علاجه ميئوساً منه..!
لا احد يعرف.. و من الأفضل أن يظل الامر هكذا.. المشكلة أنني اعرف جيدا.. فمن سيسكت هذا الصوت اللعين بداخلي؟
ينظر الي المريض في وهن و هو يقول: الحقني يا دكتور أبوس إيدك..!
إنها اللحظة التي تكره فيها مهنتك بالكامل..! فالطب كله عندها يبدو سخيفاً بلا جدوي!!
لم أشعر بالخزي و الندم مثلما شعرت وقتها.. أعرف جيدا أنني لو كنت قد كشفت عليه منذ شهرين حين وصفت هذا العلاج ربما كان الامر قد اختلف!!.. لم استطع الاعتراف بخطأي.. و لم أتمكن من مصارحته بسوء الحالة.. لم أملك إلا أن أربت علي كتفه و أنا أهدئ من روعه.. أعرف أنه يري ملك الموت الأن.. و لكنني عاجز عن حمايته منه!
إنه الدرس الأول و الأقسي الذي تعلمته في حياتي العملية.. لا تصف علاجاً لتحليل ابداً .. فنحن نعالج مرضي.. لا ورقاً يحمل تحليلا للمرضي!