تعالوا نتحدث نحن أيضاً عن المؤامرة! ليس كما صاروا يتحدثون عنها عندنا على الفضائيات وفى الصحف وعلى المواقع وأيضاً الكافيهات (للأسف فإن كلمة “مقاهٍ” لم يعد لها نفس الانطباع القديم) بل ويتحدثونها وهم مُعلَّبون داخل الميكروباصات الأهلية شبه الُمكهَّنة التى تروح وتغدو على الوجه المتغضن للوطن، تنقل خَلْقاً –رغم همومهم اليومية المُلِحّة والمُثقِلة على كواهلهم– وجدوا الوقت والدماغ والمزاج كى يُنَظِّروا لها –المؤامرة لا الميكروباصات– بحماسٍ وطلاقة، حيث يتبادلون فيما بينهم نظرياتهم تلك، المعبأة من صنابير الفضائيات ثم الُمجوّدة بمعرفتهم، فى جوٍّ منشرحٍ متحررٍ خارج الأُطُر الأكاديمية الجامدة. لن نتحدث نفس هذا الحديث المتفشِّى، بل سنتحدث عنه هو. نعم، فتدوينتى اليوم موضوعها هو الخصائص المهيمنة على أى حديث يتناول المؤامرة. ونحن ليس لدينا أكثر من الهمّ الذى على القلب إلا نظرياتنا للمؤامرة علينا، بدءاً من الأحاديث المؤامراتية عن الثورات التى أطلق عليها الربيع العربى، ومروراً بحكم الإخوان المسلمين، وأخيراً #الطائرة_الروسية و#أحداث_باريس، والتى لا نعدم مسالك ودهاليز نربط بها فيما بينهما، أو بينها وبين أن #الإسكندرية_تغرق ليس إلا بسبب خلية سرية لسد البالوعات، أو أن حزب النور يتراجع فى الانتخابات النيابية نتيجة مؤامرة مسبوكة. فخلال كلامنا عن كل تلك المؤامرات وعن غيرها، هناك سماتٌ بعينها تشترك فيها لغة المتحدثين على اختلافهم، سواءً كانوا مؤيدين لنظرية المؤامرة أو معارضين لها، وذلك بمجرد أن يأتوا للحديث عنها، ربما دون وعىٍ منهم، أو ربما كان ذلك نتاجاً لصُدْفةٍ خارقةٍ جعلتهم جميعاً يتمثّلون نفس اللغة:
۱. أن يبدأ الحديث من أننا دائماً مركز الكون وبؤرة الأحداث
هناك منطلقاتٌ أساسيةٌ يجب أن يبدأ منها حديث المؤامرة وأن يُستهّل بها، وهو استهلالٌ ضرورىٌّ لا يهدف إلى توضيح لماذا تحدث المؤامرة، وإنما لماذا تحدث لنا نحن بالذات أو بعبارة أخرى «لماذا على مصر بالذات؟» والإجابات التى تُطرح لهذا السؤال تكون على غرار «أن مصر هى رمانة الميزان وحجر الرحى والتى تتجه إليها كل الأنظار»[1] فـ «مصر فى القلب من هذه المنطقة»[2] و«مصر ذُكرت فى القرآن […] لأنها القدوة الأسوة لجميع الدول»[3] ولأنها أقوى دول الشرق الأوسط،[4] «درع الأمة العربية»[5] وبسبب «دورها الريادى فى منطقتها العربية والإفريقية»[6] أو «موقع مصر الإستراتيجى.»[7] والمؤامرة لا تستهدف مصر والمصريين فقط، بل يكفى أن تكون لك صلةٌ ما بها لتصبح أنت أيضاً مستهدَفاً، كما يوحى لنا المستشار “العلمى” لمفتى الجمهورية فى لقاء تليفزيونى له على قناة دينية، وذلك عندما يشير إلى أن نبيِّى الله موسى ويوسف (عليهما السلام) أكثر نبيين حيكت ضدهما المؤامرات – لماذا؟ قد كانا من مصر![3] (وكونهما مصريين هو قولٌ يحتاج إلى المراجعة بالتأكيد) المهم أن هذا الاستهلال يستتبع نتيجتين لازمتين له، بحيث لا يمكن فصلهما عنه. أولاهما أن المؤامرة ليست فقط ما يحدث هنا، بل كل ما يحدث هناك أيضاً. و”هناك” هذه قد تشمل أى مكان آخر فى العالم؛ كأن يزور الرئيس الأمريكى بلداً إفريقياً مثلاً وليكن إثيوبيا. فذلك لا بد لأنه «يضغط عليها لعرقلة مفاوضات سد النهضة»[6] أو لأنها عبارة عن «ورقة ضغط جديدة ضد مصر.»[4] أما النتيجة الأخرى فتتمثّل فى كون هذه المكانة المركزية ظاهرةً ثابتةً وليست مستجدة، مما يستدعى أن تكون المؤامرة أزليةً بقدر أزلية الظاهرة التى تُسبّبها، وأن المؤامرة باقيةٌ ومتواصلةٌ ما دام الكون وما دُمنا نحن فى مركز أحداثه، فـ «منطقتنا العربية تعرضت لآلاف المؤامرات على مدى التاريخ الحديث. ومازالت هدفاً أساسياً للمؤامرات الاستعمارية من دول الاستعمار القديم و […] الحديث.»[2] وهكذا فإن التاريخ لا يُدرَس باعتباره قصة تطور الجنس البشرى، ولا حتى انحطاطه، وإنما باعتباره صورةً واحدةً ثابتةً، أو مشهداً لا ينى يتكرر هو هو، لظاهرةٍ لا زمانيةٍ وخالدةٍ هى المؤامرة. فيكون السؤال الأول الذى نطرحه على أنفسنا عندما نقف إزاء التاريخ نستعرضه هو «اذكر واقعة سياسية واحدة جرت فى التاريخ الإنسانى لا تتضمن مؤامرة!»[7] ليس التاريخ فقط هو الذى يتلخّص فى المؤامرة بل أيضاً القَصَص القرآنى، حيث نجد من ينصحنا بقراءة سورة يوسف «التى تروى حال بلدنا عبر التاريخ.»[3] أما أولئك «الذين يتصورون أن المخططات الغربية-الأمريكية ضد مصر قد انتهت، فهم مخطئون»[8] فالمؤامرة مستمرة بالطبع، مثلما أنها قديمة «ابتداء بالسعى لغزو مصر فى الحملات الصليبية المتعددة»[7] ومروراً بأحداث تاريخية مثل سايكس بيكو[2] والاحتلال البريطانى ومذبحة دنشواى، لتصبح المؤامرة هى نسخة جديدة من دنشواى القديمة،[9] وصولاً إلى أزمات عصرنا مثل «تنظيم داعش صنيعة الغرب.»[2] الفرق الجديد الوحيد هو أن المؤامرة باتت «واضحة الآن أكثر من أى وقت آخر.»[10]
٢. أن ترى الناس يدخلون فى نظرية المؤامرة أفواجاً
وحتى لو لم تكن المؤامرة بذلك الوضوح، أو كنتَ مازالتَ تجد فى نفسك بعض الشك المترسِّب، فإنك لن تعدم من يكتب بهدف أن «[يكشف] صورة المؤامرة أكثر، و[يزيل] أى شك عند أى أحد فى أنها مؤامرة حقيقية.»[1] وذلك مع أن المؤامرة هى «الحقيقة التى لا تخطئها عين»[2] وقد «أصبحت واضحة للعيان لا تحتاج [إلى] الكثير من الشرح والتوضيح»[1] فـ «القرائن والدلائل والشواهد ماثلة أمام كل من له عينان ويرى.»[11] كل هذا الوضوح والانكشاف تؤكد عليه صياغةٌ شبهُ موحدةٍ جاءت عليها تصريحات ممثلين لمنظماتٍ مهنيةٍ ولأحزابٍ سياسيةٍ. فرئيس أحد الأحزاب على سبيل المثال يقول: «خيوط المؤامرة الغربية ضد مصر انكشفت عقب حادث الطائرة الروسية»[12] أما الممثل لأحد الاتحادات الدولية المهنية فيصرّح: «حادث الطائرة الروسية كشف حجم المؤامرة على مصر»[13] قد نرى فى هذين التصريحين درجة كبيرة من التشابه، وذلك حتى نطالع التصريح التالى الذى سيبدو مشابهاً بدرجة أكبر قد تصل لحد التطابق مع سابقه. إذ يقول رئيس نقابة عمالية، فى تصريحٍ منشورٍ على موقع مختلف تماماً، بالنصّ: «حادث الطائرة كشف حجم المؤامرة على مصر»[5] وذلك فى توارد لافت للألفاظ يكاد يكون حرفياً، ويجعل التصريحات تبدو كما لو كانت نسخاً تتدرج فى التطابق مع أصلٍ مفقودٍ! وترينا عينة التصريحات السابقة كيف أنه عندما نأتى للمؤامرة فإن جميع «… الأشخاص، سواء يفهمون فى السياسة أو لا، يدركون وجودها.»[5] وهذا النوع من الحديث يُطرَح علينا كأنه إقرارٌ بحقيقة واقعة، خاصةً إذا صدر عن ممثلين لمنظمات مهنية، إليها ينتمى قطاعٌ واسعٌ من العاملين. فأولئك الأشخاص العاديين الذين لا يُشترَط فيهم أن ’يفهموا فى السياسة‘، يجب أن يكون لهم ممثلٌ يتحدث باسمهم ويعرب لنا عن ’إدراكهم بوجود المؤامرة‘، ولهذا تطلع علينا أشياءٌ على غرار “النقابة العامة للعاملين بالبناء والأخشاب وأعضائها البالغين نحو مليون عامل” بمثل هذه التصريحات،[5] ومثلها نقابة المعلمين، الذين صرّحوا هم أيضاً على لسان نقيبهم: «نقف خلف القيادة السياسية فى مواجهة المؤامرة.»[14] وتأتى ضمن هذا الخضم أيضاً المسيرة الحاشدة للقضاة إلى شرم الشيخ، والتى ضمت ما يربو على الثلاثمئة قاضٍ يتقدمهم وزير العدل بنفسه.[15] إن النمط المتكرر فى مثل هذه الصور المنقولة لنا يُبرز حرصاً متصاعداً هنا وهناك على تصوير الحشد، لكنه فى هذه الحالة ليس حشداً تقوده ثورةٌ اجتماعيةٌ أو يرفع مطالب فئويةً، وإنما حشد يحدوه ’الإدراك‘ بالمؤامرة، وهو إدراكٌ يرقى إلى درجة الإيمان.
٣. المؤامرة من الغيبيات؛ فيجب الحديث عنها بلغة إيمانية
الاعتقاد بالمؤامرة عادة ما يُذكر على أنه ’إيمان‘ بها، بل هو ’إيمان عميق‘. لا يأتى هذا الوصف فقط على لسان المؤمنين بها المتحمسين –وذلك كما وصف نفسه أحد الخبراء الإستراتيجيين بأنه «يؤمن بنظرية المؤامرة»– بل حتى فى سياق كلام المعارضين للنظرية. فقد قدّمته بى بى سى مثلاً فى استعراضٍ نقدىٍّ لحديث المؤامرة السائد عندنا على أنه «الإيمان العميق لدى البسطاء والمتعلمين على حد سواء.»[16] كذلك كاتب عمودٍ كتبَ فى عموده يعارض النظرية قائلاً بأن «الإيمان العميق بالنظرية لن يغير من واقعنا شيئاً.»[17] والحال أن ’الإيمان‘ بالمؤامرة يُعتبَر تعبيراً مناسباً أكثر من ’الإدراك‘ لوجودها. هذا لأن المؤامرة بطبيعتها سرية، بل هى أبعد من ذلك: غيبية. فنظرية المؤامرة لا تتعامل فقط مع «الهدف غير المعلن»[6] لأىٍّ من الأحداث الجارية على السطح، بل أيضاً مع النوايا الباطنة والخفية. إن ’الإدراك‘ هو لغةٌ أكثرُ حِسِّيةً، بينما ’الإيمان‘ هو اللغة الغيبية بحق؛ وهو لغةٌ تُعبّر من خلال التوظيف لمفردات لها صداها الدينى الواضح. هكذا نجد من يصف تسمية تحالفٍ دولىٍّ لنفسه بـ’التحالف الدولى لمواجهة الإرهاب‘ بكونها “كذباً”[6] أو من يتكلم عن نظرية المؤامرة باعتبارها “الفريضة المُغَيَّبة”[7] (فى تناصٍّ لافت مع كتاب الفريضة الغائبة أحد الكتب المعروفة بتنظيرها لقيام تنظيم الجهاد المصرى) أو من يصف المؤامرة ضمناً بأنها «محاولة دول العالم بث الفتن بين الدولتين»[18] (يقصد بين مصر وروسيا) أو هى بمثابة «دق طبول الفتنة.»[19] ومن ثَمَّ يصبح دورنا هو «[القضاء] على بؤر الفتن» هذه.[5] ولا تتوقف هذه اللغة عند حد الاصطلاحات الفقهية كالكذب والفريضة والفتنة، وإنما تتعداها إلى المفاهيم المطلقة: كالشر مثلاً.
٤. تجسيد الشر، بل ربما وجدنا الشيطان ذاته ماثلاً
أتذكرون تعبير محور الشر الذى استخدمه بوش الابن زمان؟ حسناً، نحن الآن أيضاً عندنا: “قوى الشر”،[20] “أهل الشر”،[8] “الجماعة الشريرة”، “الإعلام الشرير”، و”هؤلاء الأشرار”.[11] قد نفهم أن الشر هنا هو مجرد طريقة بليغة، من خارج المعجم السياسى، للإشارة إلى ما يسميه آخرون: الدعوات الخبيثة،[19] المخطط الخبيث،[1] المؤامرة الدنيئة،[15] المحاولات الدنيئة،[18] ’تصورهم‘ الخبيث.[11] فالمعنى المطلق للشر، والذى قد تقصده مثل هذه التعبيرات، لن يتضح لنا إلا من خلال مقارنته بالمفهوم المطلق المقابل له، وذلك عندما يتحدث مثلاً المستشار العلمى لمفتى الجمهورية عن أن تدبير المؤامرات والمكائد لمصر هو بمثابة “إيذاءٍ لله”[3] مستشهداً فى ذلك بالآيات والأحاديث المدعّمة لرأيه. فهنا فقط نستطيع أن نرى الشر ليس على أنه وصفٌ بلاغىّ، وإنما باعتباره ذلك المفهوم الكونى المطلق. فلا تستغرِبْ –بعد أن تَجسّد لك مفهوم الشر– أن يتمثّل الشيطان ذاته فى المؤامرة، بحيث توصف بأنها “المخططات الشيطانية” (وذلك خمس مرات فى مقالة واحدة!)[8] ثم إننا لسنا بعيدين عن مسميات مثل الشيطان الأكبر، والذى أُطلِق على أمريكا فى سياقات مشابهة.
٥. الصفّ والركوع، ثنائيةٌ ليست للصلاة فقط
تلك الثنائيات المفهومية، من قبيل الشر والخير والشيطان والله، عندما يستدعيها حديث المؤامرة فإنه لا يجلبها وحدها من المعجم الدينى، بل يستدعى معها ثنائية أخرى تترجم هذا المستوى من المفاهيم إلى مستوى آخر؛ هو مستوى الأفعال. ومثلما أن ثنائية الشيطان والله تنطبق على تقسيمٍ للعالم إلى متآمِرين ومتآمَر عليهم، فإن الحديث عن المؤامرة يستلزم ثنائية أخرى تصلح لهذين الموقفين المتقابلين. وإذا نحن حاولنا استخراج مثل هذه الثنائية من كمّ المقالات والتقارير والأخبار التى تتناول المؤامرة، فإننا سنجد أن موقف المتآمِرين عادة ما يوصف بأنه يهدف إلى “إركاع المصريين“،[21] أو “تركيع مصر“[12] و”تركيع شعبها“.[22] فى المقابل، فإن ذلك الكمّ من أحاديث المؤامرة يدعونا –نحن المصنَّفين فى خانة المتآمَر عليهم– إلى «تماسك [جبهتنا] الداخلية»[8] أو «تماسك الشعب وعدم النيل من وحدته»[12] أو «التفاف المصريين حول قيادتهم.»[11] لكن كل هذه الصور المجازية –من مجابهة وتماسك والتفاف، وتكاتف،[21] وترابط وتوحد،[9] وتحمُّل وصمود–[13] كلها تبقى مفتقدةً للتأثير المُوازِن للصورة المقابلة القوية المتكررة والمثيرة للخيال للـ”تركيع“. هنا يظهر مجاز الاصطفاف[19] الذى قد تلحق به أحياناً الصفة الجامعة ليصبح ’الاصطفاف الوطنى‘.[23] فبين التركيع والاصطفاف تتمثّل لنا الثنائية المناسبة بالضبط لتُجارىَ سياق الشيطان والشر و’إيذاء الله‘. فوقوف المصلين صفاً خلف إمامٍ، وركوعهم أثناء الصلاة، هى أفعالٌ تتعدى كونها حركات جسدية لتصير ذات دلالات معنوية وإيمانية، لا يسعنا إزاء تكرارها إلا أن نستحضرها فى ذهننا أو لا وعينا الباطن، خاصةً عندما يُفسَّر هذا الاصطفاف بأنه لا بد أن يكون من وراء كينونة أو شخص:[16] بأن «نقف خلف القيادة السياسية»[14] وبأنه «سيظل الشعب خلف الرئيس.»[12] حيث يُثبِت التعبير هنا عبقريته فى قدرته على الجمع بين صورتين: صورة القائد ومن خلفه الجنود، وصورة الإمام ووراءه المصلون.
٦. أن يتبرأ المتحدث من تهمة ازدرائه للمؤامرة
إن توظيف مثل هذه الثنائيات –ذات الوقع المقدس– فى حديث المؤامرة قد يجعلنا نفكر فى أنه قد صارت للمؤامرة قدسيتُها. وهى قدسيةٌ تتجلى أقصى ما تتجلى –ويا للعجب!– فى حديث أولئك الذين يظهرون بمظهر أنهم لا يتوقفون عند المؤامرة، وإنما يحاولون مخلصين أن يتجاوزوها إلى ما هو أجدى. إذ لدينا أولئك الذين يُروّجون للمؤامرة بوضوحٍ وحسمٍ لا يقبلان الجدل أو الشك، كأن تستهل الأهرام مقالتها الافتتاحية بسؤالٍ لا لبس فيه: «هل تتعرض مصر الآن لمؤامرة؟ [لتكون] الإجابة بالفم الملآن: نعم!»[11] هكذا دون لف أو دوران أو “لكن”. ثم إن لدينا الآخرين، الذين قد يتجنبون السؤال ويلتفون حوله: «لن نناقش سؤال: أهناك مؤامرة ضد مصر أم لا؟»[24] أو أنهم قد يطرحون إجابةً مراوغةً له من نوع تلك الإجابات المصحوبة بـ”لكن”، حيث يسوق الكاتب لنا بعد “لكن” هذه ما شاء من أسباب. وتحت الصِّنف الأخير تندرج عدة أمثلة لمقالات كتّاب أعمدة نقدوا نظرية المؤامرة، فيقول أحدهم مثلاً: «فسواء كانت هذه التساؤلات السابقة لها أساس تآمرى أم لا، إلا أن …»[17] و”إلا أن” هذه ليست إلا أخت “لكن”. أو أن يعطى تيارٌ سياسىٌّ ما تصريحاً مفاده أنه «لا ينكر المؤامرة الموجودة على المنطقة “لكنه” …»[25] هذا الأسلوب المتردّد يُذكّرنى بتهمةٍ معروفةٍ بالقانون المصرى اسمها ازدراء الأديان. فقد بدا لى أن أولئك المتحدثين، حتى عندما يحاولون نفى المؤامرة أو تفنيد تأثيرها باعتباره مُبالَغاً فيه، فإنهم يفعلونها كما لو أن ذلك قد يجلب عليهم تهمةً بالازدراء، لكن ليس للأديان هذه المرة وإنما للمؤامرة. فالمؤامرة ينبغى أن تظل شاخصةً وموجودةً لا تُمَسُّ فى جميع الأحوال، حتى ونحن نعمل على دحضها.
٧. موجودة فى كل شىء، ففى ظل المؤامرة الكبرى ما من صدفةٍ أو أحداثٍ عشواء
نعم، المؤامرة يجب أن تظل موجودةً فى جميع الأحوال. ومن أسطع الأدلة والبراهين على أنها موجودة هو قدرتنا على تشخيصها فى كل ما يحصل، حتى وإن كان هزلياً مبتذلاً وعبثياً، وذلك وفقاً لكاتبة أحد المقالات، إذ تختتم مقالها بسؤال تعجبىّ: «بالله عليكم، إن لم يكن هذا جزءاً من مؤامرة دولية كبيرة […] فماذا يمكن أن نسمى هذا الهزل، والابتذال، والعبث؟!»[22] (دون أن تنتبه الكاتبة إلى أن المؤامرة يجب أن تكون على النقيض من كل ما سبق، فالمؤامرة كما أحسبها تكون جادةً خطيرةً، مستتِرةً غير مُفْتَضّةٍ، وترمى إلى هدف محدد ومُبيّت. وبالتالى فإن كل ذلك لا يمكن أن يغرينى بتسميته “مؤامرة” –فضلاً عن أن أصفها بـ’الدولية الكبيرة‘– مهما استحلفتنى الكاتبة) ومع أن الوقوع فى تناقضاتٍ منطقيةٍ هو سمةٌ أساسيةٌ لأحاديث المؤامرة، كأن تكون مؤامرة –ومن شأن المؤامرات أن تُدبر خفيةً– لكنها فى نفس الوقت تكون كما أسلفنا «واضحة للعيان»[1] «ماثلة أمام كل من له عينان ويرى.»[11] إلا أنه يمكن التغاضى عما نراه هنا تناقضاً فى منطق الكلام عند الكاتبة، مُبرِّرين ذلك بأنه يأتى على خلفية حدث من الأحداث الكبرى؛ وهو سقوط طائرة بركابها البالغين مئتين وأربعاً وعشرين نَفْساً، الأمر الذى قد يَبُرز فعلاً كحدثٍ يليق بمؤامرةٍ مدبرةٍ، ويجعل وصفها بـ”مؤامرة دولية كبيرة” قد يبدو هنا مستساغاً. لكن أن تكون الوقائع المجهرية والمصائر الفردية هى أيضاً أحداثٌ يجب أن نرى فيها تجليات المؤامرة ’الكبرى‘، فهذا هو ما تخبرنا به مداخلةٌ لواحدةٍ من الفنانات المصريات على إحدى الفضائيات، قدّمت خلالها العزاء فى شاب مصرى قُتِل بالكويت وفتاة كويتية مغدور بها بمصر. حيث رأت فى الجريمتين محاولةً للوقيعة بين مصر والكويت، تضاف إلى محاولات أخرى للوقيعة أيضاً بين مصر والأردن؛ ليتراءى لها كيف أن «المؤامرة على مصر كبيرة أوى.»[26] ولم تكن الفنانة المذكورة وحدها فى تفسيرها هذا، فصحيفة الأهرام العريقة ذات نفسها ساقت مثل هذه “الحوادث الفردية” –على حد وصف الصحيفة– والمعالجات الإعلامية لها دليلاً على المؤامرة. وهكذا لا يعود شىءٌ يحدث عشوائياً، حتى الكلمات التى تخرج على لسان دميةٍ تليفزيونيةٍ متحركةٍ،[27] أو الديكور الزينة الموجود فى خلفيتها، كل هذا نراه من خلال منظار المؤامرة الكاشف، فتظهر لنا مُحمّلةً بالشفرات السرية التى لا بد أن نعكف على تحليلها وفك رموزها، بل وأن نتنازع فيما بيننا على حقوق كشف هذه الشفرة.[28] فكلّ حدثٍ، حتى وإن كان بسيطاً لحد السخافة، أو مجهرياً فى حدود حياة الفرد (أو موته) وليس بالضرورة حدثاً كبيراً على نطاق دولىّ، يصبح له مغزىً ودورٌ فى إطار خطةٍ عالميةٍ كبرى. تتضمن هذه الخطة التفكير فى مصير لى أنا ولأفراد آخرين، والتدبير من أجل تحقُّق تلك المصائر، بحيث تخدم جميعها هدف هذه الخطة أو المؤامرة.
٨. كونها كبرى وكونية، فذلك يتطلب من هو أعلى وأكبر من العالم
هذا الانعدام للعشوائية فى الأحداث الجارية لنا ومن حولنا يعنى ضرورة وجود المُخطِّط أو المُخطِّطين الذين لهم أهدافُهم المُبيَّتة. وهنا ينتقل حديث المؤامرة إلى الكينونات التى تقف وراء الخطة، والتى من شأنها أن تكون غامضةً بقدر غموض المؤامرة. هذه الكينونات ينبغى إضفاء صفاتٍ معينةٍ عليها، تجعلها تبدو مهيمنةً باسطةً نفوذها على الظواهر والأشياء والأشخاص. ومثلما أطلقنا على المؤامرة صفاتٍ مثل “كبرى” و”كونية”، فإننا أيضاً نسبغ على الأطراف الخفية المتآمِرة أوصافاً من قبيل “الأكبر” مثل الشيطان الأكبر أمريكا، أو “العظمى” كما قيل أيضاً ويقال عن أمريكا القوة العظمى، أو “العالمى” كما فى الماسونية العالمية والصهيونية العالمية. ثم إنه يتبدّى لنا –بعد كل هذا– أن كل أفعل التفضيل هذه لم تعد تكفى أو تتناسب مع كونية المؤامرة؛ ليظهر لنا مؤخراً أن هناك من هو “أعلى” –المجلس الأعلى للعالم– والذى هو «أقوى من الدول، وأقوى من أمريكا وروسيا، ومن الممكن أن يُحدِث فى العالم فيضاناتٍ وزلازلَ وبراكينَ لإبادة وقتل آلاف البشر.»[29] هكذا يصبح نَفْيُنا للعشوائية مَردُّه ليس إلى إيماننا بوجود خطةٍ إلهيةٍ ما للخلق، وإنما بالأساس لإيماننا بالمؤامرة وبمن وراءها.
* * *
ما سبق كان عبارةً عن لعبةٍ ليس إلا؛ لعبةِ استنطاقٍ لحديث المؤامرة، بحيث جعلتُه ينطق ما لم ينطق به. وقد وجدتُ أن لأحاديث المؤامرة معجماً، يستعين به المتحدثون ليستقوا منه مفرداتهم اللغوية ويُركّبوا به صورَهم المجازية، التى يرون أنها تُعبِّر عن المؤامرة التعبير الأمثل فى رأيهم، وذلك بدليل أنهم اختاروا تلك المفردات والصور بالذات دون غيرها فيما يشبه إجماعاً عليها. وقد عرضتُ عليكم هذه الحصيلة، التى تكررت عبر عينةٍ عشواءٍ من نتاج الإعلام المصرى خرجت لى بالجَوْجَلَة عن كلمتين، هما تحديداً: “المؤامرة مصر” وذلك تحت باب ’أخبار‘ فى محرك جوجل، مع بعض عمليات البحث الفرعية التى قد تستلزمها تفصيلةٌ ما، مراعياً فى ذلك التنوع قدرَ ما استطعت. ثم إنى صِغتُ عرضى لهذه المفردات والصور المشتركة بحيث يظهر لكم كيف أنها تتقاطع مع مفردات معجمٍ آخر؛ ألا وهو المعجم الدينى.
ولكى يكون الوصف أقلَّ إثارةً للجدل، فإننى –بدلاً من “الدينى” هذه– سأصفه بأنه معجمٌ لاهوتىّ:
إن تصور الإنسان لنفسه أنه مركز الكون هو تصورٌ لاهوتىٌّ أصلاً، وكان قديماً هو جوهر الخلاف بين الكنيسة وجاليليو، عندما أثبت ذلك الأخير صحة نظرية كوبرنيكوس التى تفيد بأن الأرض هى التى تدور حول الشمس، لا العكس. فالكنيسة طالما اعتقدت أن الإنسان، الذى هو محور موضوعات الكتاب المقدس، وبالتالى مناط العناية والحكمة الإلهية، لا يمكن أن يشغل مكاناً هامشياً سابحاً هكذا فى فضاء الكون، بل يتعين أن يكون بمثابة المركز الراسخ للكوزمولوجيا كلها. وهو مفهومٌ مقاربٌ للتعبير القرآنى ’التسخير‘ الذى يشمل الحيوان والجبال والريح والبحر والأنهار والأرض وما فيها والنجوم والليل والنهار إلى آخره من الظواهر الكونية المُسخَّرة جميعاً للإنسان. وحتى الآن يوجد منكرون لحقيقة دورانية الأرض انطلاقاً من أسبابٍ لاهوتيةٍ بحتة، إذ تهدم هذه الحقيقة الفلكية شعورهم المُحبَّب لأنفسهم بمكانتهم الخاصة والمدلَّلة فى الملكوت الربّانى. كذلك نظرية المؤامرة، تنبع من شعورٍ زائفٍ لدى الشخص بأنه مركزٌ للعالم ومحورٌ للأحداث. من هذا الشعور الزائف تنبثق الأوهام الأخرى، والتى لا يملك ذلك الشخص إلا أن يعبّر عنها من خلال لغته –الواقعة تحت نفس التأثير اللاهوتى– عندما يتحدث عن المؤامرة، حتى تتمثّل له فى النهاية بوصفها التفسير الأكبر الذى ليس بعده تفسيرٌ آخر لكل حدثٍ يمر به مهما بدا بسيطاً، ولتحلَّ بذلك عنده محل التاريخ ونواميس الكون والقَدَر وحكمة الخلق، ويتهيأ له المتآمرون المتستّرون خلفها باعتبارهم ماهيّاتٍ كليّةَ القدرةِ محيطةَ العلم، قادرةً على وضع خططٍ تضاهى خطة الوجود ذاتَها.
أما تفسير هذا التقاطع بين معجمى المؤامرة واللاهوت، فسأذهب من أجله إلى صاحب أكبر نقدٍ لنظرية المؤامرة، ذلك الذى يقتبس عنه الجميع حينما يحبون أن يهاجموها، ألا وهو الفيلسوف النمسوى الإنجليزى كارل پوپر. فقد وضع پوپر معاً فى سلة واحدة جملةً من الأحكام الفلسفية المُسبَّقة –من ضمنها كانت نظرية المؤامرة– أحكامٍ رآها خطيرة، شملت: التفسير الماركسى لتفشِّى الحروب والفقر والبطالة فى العالم على أنه من مغبّة الرأسمالية وعصر الآلة؛ وأيضاً المُعتقَد المسيحىّ عن الشيطان الذى يرى فيه أصل الشر فى العالم والبلاء والفساد؛ وكذلك –وإضافة إلى ما سبق– أن تكون هناك نظريةٌ سياسيةٌ فوق النقد تفسر أزمة مجتمع ما بمؤامرة كوكبية عليه. فإذا كان پوپر قد وضع فى سلةٍ واحدةٍ نظريةَ المؤامرة مع معتَقدٍ لاهوتىّ، فإنه لا غرو بعد ذلك إن نحن وجدنا –فى مجتمعٍ مثل مجتمعنا– رابطاً بين معجميهما. وپوپر نفسه يعطينا شبه التفسير لهذا الخلط عندنا بين المؤامرة واللاهوت، إذ يقول إن «نظرية المؤامرة بالنسبة للمجتمع هى نتيجةٌ لأن يهجرَ الناسُ اللهَ ثم يتساءلون: ومن يوجد الآن فى مكانه؟»
————————
[1] يحيى الجمل – لن تنجح مؤامرة تركيع مصر! | المصرى اليوم
[2] د. عبد الجواد حجاب يكتب: حائط صد المؤامرات | اليوم السابع
[3] محمد صبرى عبد الرحيم – مستشار المفتى: المؤامرة على مصر إيذاء لله ورسوله … | صدى البلد
[4] رحاب جمعة – زيارة أوباما لإثيوبيا … | بوابة الفجر
[5] محمد حسنى – “العاملين بالبناء والأخشاب”: حادث الطائرة كشف حجم المؤامرة … | ڤيتو
[6] منى النشار – خبير عسكرى: أوباما يضغط على إثيوبيا … | بوابة الفجر
[7] إبراهيم الجارحى – نظرية المؤامرة.. الفريضة المُغَيَّبة | المصرى اليوم
[8] وجدى زين الدين – تفاصيل المخطط الجديد لإسقاط مصر | بوابة الوفد
[9] د. عزة أحمد هيكل – الطائرة الروسية.. دنشواى جديدة | الوفد
[10] مروان سعد – خبراء: المؤامرة على مصر واضحة … | جريدة الدستور
[12] عمرو إسماعيل – قورة: خيوط المؤامرة الغربية ضد مصر انكشفت … | بوابة الوفد
[13] محمد خميس – المرشدين السياحيين: حادث الطائرة الروسية كشف حجم المؤامرة … | البوابة نيوز
[14] الديب أبو على – الزناتى: نقف خلف القيادة السياسية فى مواجهة المؤامرة … | صدى البلد
[15] محمود محمد على – الزند من شرم الشيخ: مصر لن ننأثر بـ’المؤامرة الدنيئة‘ … | بوابة الشروق
[16] فى تداعيات حادث الطائرة الروسية … | بى بى سى عربى
[17] عمرو الشوبكى – نظرية المؤامرة | المصرى اليوم
[18] أحمد دراز – سياسيون: تصريحات بوتين رسالة لصد المؤامرة … | بوابة الوفد
[19] محمد مجدى السيسى – ’المصريين الأحرار‘: دعوات التظاهر فى ٢٥ يناير المقبل مؤامرة … | اليوم السابع
[20] تفاصيل المؤامرة.. بريطانيا تقود مخططاً دولياً لإشاعة الفوضى فى مصر | صوت الأمة
[21] محمد مخلوف – عمرو عبد الحميد: المؤامرة ضد مصر الهدف منها الدولة … | البوابة نيوز
[22] آمال عثمان: الصاروخ البريطانى والقنبلة الأمريكية! | الوطن
[23] مصطفى عبد التواب – ’التيار الديمقراطى‘ يجتمع غداً … | اليوم السابع
[24] عماد الدين حسين – ماذا فعلنا لمواجهة المؤامرة؟ | بوابة الشروق
[25] مصطفى عبد التواب – التيار الديمقراطى: المؤامرة على مصر قائمة … | اليوم السابع
[26] محمد البنهاوى – وفاء عامر: المؤامرة كبيرة أوى على مصر | بوابة أخبار اليوم
[27] أحمد يحيى، محمد النجار – خبير فك شفرات يكشف سر تدوينة أبلة فاهيتا … | البوابة نيوز
[28] ’أبلة فاهيتا‘ متهمة بالتجسس لصالح الإخوان | موقع قناة الحرة
[29] مروة محمد – تامر أمين: ’المجلس الأعلى للعالم‘ يستطيع تدمير أى دولة … | البداية