استوققنى مشهد لمراسل في قناة تليفزيونية مهمة، المراسل الذى يبدو جاداً للغاية، ينقل حدثاً مهماً،والوضع بالفعل قد يكون خطيراً فى محل وقوفه،وبرغم تركيزى الشديد فى الحدث ، إلا أنه ولوهلة وجدتنى أتسائل: على أي أساس تم اختيار هذا المراسل،ولا أقصده هو تحديداً،بل أعني أية آلية أدت في النهاية إلى ظهوره على الشاشة هو أو غيره؟
فى زمن سابق، كنت قد أجبت نفسي فوراً،بأنها الكفاءة،وأنه ولابد قد حصل على تدريب عال المستوى،يتيح له فرصة الظهور على شاشة “محترفة”، ربما أن هذه الإجابة هي الأسرع إلى الذهن،وهى الأكثر جلباً للراحة،لكننى الآن وبعد خبراتٍ متتالية،وبعد السنوات العاصفة التي مرت وتمر بها منطقتنا وتركت أثرها على الإعلام بوضوح،لا أستطيع أن أخدع نفسي بهكذا إجابة، تحمل إلي راحةً مزيفة،ويدرك عقلي أنها ساذجة لا تقنع حتى مبتدأ في مهنتنا الغراء.
منذ سنوات طويلة،حين كنت في بداية الطريق أنا وأصدقائي الذين أصبحوا زملاء مهنة في فروعٍ عدة،كنا ندرك جيداً أن المهارة المهنية هي سبيل وحيد أو ضرورى للسلوك في هذه المهنة الصعبة،وربما أن حساباتٍ أخرى قد تفرض نفسها بطبيعة الحال،لكن المؤكد بأن “الشطارة” ضرورية،ولا مناص عن توافرها إذا تعلق الأمر بالتصعيد إلى الفرص الأفضل، أما الآن وبكل وضوح،وبضمير مستريح للغاية،أستطيع أن أؤكد لكل مبتدىء في هذه المهنة،بأن المسألة لم تعد تتعلق أبداً بالشطارة، وأن “الحسابات” أية حسابات، قد أصبحت للأسف هي العامل الأهم،ليس للتصعيد الوظيفي والفرص الأفضل فحسب،و إنما لإيجاد فرصة من الأساس!.
والحسابات هنا،لأنها شبه الزمن الحالي،ليست توجهات سياسية،أو انتماءات حزبية،بقدر ما أصبحت تتجه لبيزنس “فج” يحمي الإرهاب ويقف في صفه أحياناً،ويعلن انحيازه للفساد في أحيان أخرى، وأياً ما كان نوع “الحسابات”التي اختارها الذى أراد سلوك طريق الإعلام سبيلاً لطموحاته، فهي تعنى بالضرورة بأنه ليس مضطراً لتنمية مهاراته المهنية كي يضمن بقائه في مضمار المهنة.
قد يعتقد قارىء عابر بأن هذا الحديث هو محض فضفضة أو ممارسة للحسرة على مهنة أحببتها،ولا أعتزم اختراف غيرها،لكنني في الحقيقة أدرك جيداً،الفرق بين البكاء على اللبن المسكوب، والرغبة في تفنيد العقبات التي تقف بشكل حقيقي أمام التطور الطبيعي لمهنة الإعلام.
لو أن الاتجاه السائد لدى الراغبين في ممارسة مهنة،يبتعد تماماً عن المهارات التي لا بد من اكتسابها للاستمرار والتطور والتصعيد الوظيفي،حينها قل على المهنة السلام،وإذا كانت هذه المهنة هي الإعلام، فالجريمة هنا تصبح متعددة الأبعاد،فهى أولاً وأخيراً مهنة تستهدف البحث عن الحقيقة ،وسوى ذلك كذب.
يؤلمني بشدة حين أجد شخصاً يمارس الإعلام،لأهداف أبعد ما تكون عن الولاء للمهنة، وأشعر بغيرةٍ شديدة على المهنة التي أحببت،وأدعو كل ممارس لها عن قناعة بأنها مهنة البحث عن الحقيقة،ليدافع عنها، ربما بالاستمرار في ممارستها،أو تطوير أدواته ليحتفظ لنفسه بمكان في سوق مشوه يستهدف اغتيالها لا الإبقاء عليها، أعرف أن العملة الرديئة كثيراً ما تطرد العملة الجيدة،لكننى أتعشم في الإراداة التي لا بد يتحلى بها كل إعلامي محب لمهنته،بأن تطرد العملة الجيدة الأخرى الرديئة الدخيلة،عسى أن يأتي يوم قريب أو بعيد،نتخلص فيه من كل شخص يتطفل على مهنتنا فيمارسها على ما تفرج ويجد مبتغاه في وسيلة أخرى للتربح غير الشريف.