كان الطفل الجائع يخاطب والدته باعتياد: – عاوز شاندوتش.
هكذا بشين واضحة وبلهجة فيها براح الفلاحين مع اللفظ، لكن الأم تنهره، وترد بتكلف ونطق خواجاتي:
– عيب كده.. اسمه ساندويتش.
لا يعرف الطفل أهمية تدقيق الأسماء تلك والإيحاء بأن أحد المرادفات عيب والآخر مُفضل، طالما أن الاثنين يعبران عن ذات المضمون، ويصلان به إلى النتائج ذاتها، بأن تضع له الأم غموسًا ما فى بطن رغيف ليسد جوعه.
***
قالت الجماهير فى الدقهلية كلمتها..
اختارت عبر صناديق نزيهة وشفافة وعملية انتخابية منضبطة إجرائيًّا نائبها فى البرلمان توفيق عكاشة، ولم تكتف بذلك وإنما منحته أعلى الأصوات التى حصل عليها مرشح فى هذه الانتخابات البرلمانية، بقرابة مائة ألف صوت.
الرأى العام الإلكتروني مصدوم، من أين جاء الرجل الذى لا تأتى سيرته على مواقع التواصل إلا وهى مقرونة بالسخرية اللاذعة من أقواله وأفعاله وتاريخه ولقطاته وصوره؟
والحقيقة الصادمة أن الرجل له شعبية كبرى فى مسقط رأسه، وفى مناطق أخرى خارج الدقهلية، ممن يشاهدون طلاته المطولة جدًّا عبر القناة “المملوكة للسيدة والدته”، خاصة بين كبار السن والفلاحين والصنايعية الذين يحبون حديثه مهما كنت تراه سطحيًّا ويعزز التسطيح عند الجمهور.
***
كان الطفل المتعب يبكى فى الفصل بشكل لافت مما جعل مُدرسته تسأله:
– مالك؟
رد الطفل ببساطة وتلقائية:
– الجزمة واجعانى.
لكن المُدرسة تنهره:
– عيب كده.. اسمها الشوز.
لا يعرف الطفل أهمية تدقيق الأسماء تلك والإيحاء بأن أحد المرادفات عيب والآخر مفضل، طالما أن الاثنين يعبران عن ذات المضمون، ويصلان به إلى النتائج ذاتها، بأن هناك ألمًا ما مصدره ذلك الحذاء الذى يحاصر قدميه.
***
لا يكتفي توفيق عكاشة بأن يكون النائب الأكثر شعبية من حيث الأصوات التى حصل عليها، لكن تصوره عن نفسه بأن “مُفجر الثورة” يدفعه إلى الإعلان عن نيته الترشح لرئاسة البرلمان.
فى أوروبا والدول المتقدمة هذا طموح مشروع، الطريق إليه صندوق أكثر شفافية ونزاهة، ومن المفترض أن يطرح الرجل نفسه لرئاسة المجلس ويقرر زملاؤه من النواب أن يمنحوه أصواتهم أو يحجبوها عنه.
صار إذن نائبًا بإرادة الجماهير.. وقد يكون رئيسًا للبرلمان بإرادة نواب الشعب.
***
كان الشاب العايق يحوم حول الفتاة الجميلة وهو يعبث برابطة العنق، كأنه يلفت نظرها أنه يرتديها، ولما باءت محاولاته بالفشل اضطر إلى أن يتدخل بحديث مباشر، طالما إن الحلوة بنت الناس لا تفهم الإشارات:
– إيه رأيك فى الجرافاتيه؟
قالها بعمق فلاحي أصيل، لكن الفتاة انزعجت إلى درجة أن ظهر الانزعاج على وجهها وهى تسارع لرده بلهجة مضادة أكثر اختزالاً وحسمًا وليس فيها تنويعات فى الإطالة:
– اسمها الكرافت.
لا يعرف الشاب أهمية تدقيق الأسماء تلك والإيحاء بأن أحد المرادفات عيب والآخر مفضل، طالما أن الاثنين يعبران عن ذات المضمون، ويصلان به إلى النتائج ذاتها، بأن هذه القطعة الزاهية من القماش اللامع التى تطوق عنقه وتتدلى على صدره تستحق الاحتفاء.
***
المصدومون من خبر ترشح توفيق عكاشة للبرلمان يصورون لك الأمر كأنه إحدى علامات الساعة، أو إحدى عجائب الدنيا، ويستندون فى إظهار دلائلهم إلى ما أصاب مصر من انحطاط بصورةٍ لعكاشة الرئيس المحتمل لبرلمان 2016، وصفوت الشريف رئيس مجلس الشورى فى زمن مبارك، ويبدو فيها عكاشة يقبل يد صفوت.
المعلقون قالوا إن ثورة قامت لإسقاط نظام مبارك وكان أحد أركانه صفوت الشريف، من أجل أن يأتى لرئاسة البرلمان من كان يقبل يد صفوت الشريف.
لكن هؤلاء لا يقولون لنا من الذى كان صفوت الشريف يقبل يده قبل أن يصل إلى ما وصل إليه.
ربما لأن “فيسبوك” لم يكن قد ظهر فى تلك الفترة التى كانت فترة محاضر ووثائق واعترافات وليس صورًا وشير ولينكات.
***
بدا الرجل مأزومًا وهو يدخل مهرولاً إلى استقبال الفندق ويقول للموظفة الحسناء باستعطاف:
– من فضلك الكابينيه منين؟
تسمرت السيدة للحظات بينما ارتسم بعض الدهشة على ملامحها، كأنها لم تفهم أو لم تسمع، مما دفع الرجل لتكرار طلبه:
– الكابينيه!
هزت السيدة رأسها وابتسمت ابتسامة مقتضبة وهى ترد:
– قصدك التويلت.
وتشير إلى اليسار فيهرع الرجل باتجاه إشارتها، وهو يتساءل عن أهمية تدقيق الأسماء تلك والإيحاء بأن أحد المرادفات عيب والآخر مفضل، طالما أن الاثنين يعبران عن ذات المضمون، ويصلان به إلى النتائج ذاتها، بأن هذا المكان، أيًّا كان اسمه، هو ما سيجد فيه الراحة.
***
يعتقد المصدومون جدًّا من احتمالية حصول توفيق عكاشة على مقعد رئاسة البرلمان، أنه من العار أن يجلس عكاشة على مقعد جلس عليه قامات كبرى، لكن أغلب المصدومين لصغر سنهم لا يتذكرون من هذه القامات سوى الدكتور أحمد فتحي سرور، والدكتور محمد سعد الكتاتنى، أحدهما كان منتميًا للحزب الوطنى والثانى كان منتميًا لجماعة الإخوان.
يتحدث هؤلاء عن التأهيل العلمى للسابقين على كرسي رئاسة البرلمان، عن المؤلفات القانونية العظيمة التى تركها سرور، وعن الأخلاق الرفيعة التى كان يتحلى بها الكتاتنى.
لكن أحدًا لا يخبرك بعلاقة كل ذلك بالمهمة التى كان يؤديها السابقون على كرسي رئاسة البرلمان، الذى ظل يشغله باستمرار أحد رجال النظام، وظلت مهمته الوحيدة هى إدارة المجلس وفق أجندة النظام ولتحقيق أهدافه، فهل توفيق عكاشة يعجز عن القيام بمثل هذا الدور؟
هل منعت مؤلفات سرور القانونية المجلس من انتهاك أحكام محكمة النقض وإلقائها فى القمامة وتحصين نواب مزورين ومطعون فى شرعيتهم؟
هل ساعدته دروسه التى علمها لتلاميذه عن سيادة القانون والدستور، أن يمنع فسادًا أو يحد استبدادًا أو يوقف اعتداءً على الدستور، أو ينصر استجوابًا ضد التعذيب؟
هل كان الكتاتنى إلا مندوبًا لجماعة الإخوان على كرسي البرلمان؟
هل منعته أخلاقه وتقواه عن الانتصار للشرطة وهى تقتل المتظاهرين والتأكيد أنها “ماعندهاش خرطوش”؟
هل منعته سنين النضال ضد البطش الأمنى من عرقلة جهود هيكلة الداخلية، وإقرار قانون يحاول استمالة المؤسسة الأمنية للجماعة بالمكافآت والترقيات؟
هل منعه وضعه من مناصرة الاعتداء على روح الدولة الدستورية ومساندة إعلان دستورى كان بداية الانهيار للتحول الديمقراطى كله؟
***
إلى كل المتباكين على برلمان يرأسه عكاشة، والمتحسرين على سابقيه، لا تقلقوا فمن حيث المضمون لن يفعل عكاشة شيئًا لم يفعله سابقوه، وسيضطلع بمهمته كما اضطلع الذين كانوا قبله، كل ما فى الأمر أننا نفتش كثيرًا عن الشكل لا المضمون، ونحب من يخدعنا باللغة والمظهر أكثر من الواضحين تمامًا، وإن كان السابقون يمثلون بطريقتهم مراحلهم، فعكاشة وبطريقته يمثل هذه المرحلة، والفارق بينه وبين سابقيه كالفارق بين “شاندوتش.. وساندويتش” ليس إلا!
نقلًا عن “جريدة التحرير”