– 1 –
في مثل هذا اليوم قبل عام، داهمت قوة من شرطة الآداب، مصحوبة بكاميرات برنامج تليفزيوني، حمّامًا شعبيًّا عامًّا في أحد أحياء القاهرة و ألقت القبض على مالكه و على عدد كبير من رواده. بعد فضيحة على الملأ، أمام الجيران و مشاهدي البرنامج، اضطر ستة و عشرون من هؤلاء إلى الدفاع عن شرفهم في المحكمة أمام اتهامات بالتجارة الجنسية بين الرجال و الفجور و نشر الرذيلة. بينما تركت مشاهد اقتيادهم و تصويرهم و هم عرايا إلا من قليل أثرًا بالغًا لدى الرأي العام، حطمت نفوس المتهمين إلى حد أن أحدهم، وفقًا للمحامي طارق العوضي، أشعل النيران في نفسه و أصيب آخر باكتئاب حاد أدى إلى وفاته كمدًا.
– 2 –
في يناير/كانون الثاني من هذا العام، صدر حكم نهائي ببراءة جميع المتهمين مما نُسب إليهم من اتهامات، كان هذا جانبًا مما جاء في حيثياته: “.. لمّا كانت الأحكام الجنائية تُبنى على الجزم و اليقين، لا على الشك و التخمين، و أن ما استقرت عليه أحكام محكمة النقض بأنه إذا تشككت المحكمة في أدلة الاتهام (يكون هذا) كفيلًا بالقضاء بالبراءة ..”.
– 3 –
في ردة فعل مستحقة، رفع بعض المبرَّأين قضية “جنحة مباشرة عن واقعات سب و قذف و طعن في الأعراض و خدش سمعة العائلات و نشر أخبار كاذبة” بحق كل من مقدمة البرنامج التليفزيوني، و مالك القناة الحاضنة. و قبل أحد عشر يومًا قضت محكمة ابتدائية بحبس مقدمة البرنامج ستة أشهر في مقابل الطعن في الأعراض، و تغريمها عشرة آلاف جنيه مصري مقابل السب و القذف، و عشرة آلاف و جنيهًا أخرى على سبيل التعويض المؤقت (و هو ما يفتح بابًا لاحتمال تعويضات أكبر)، و ألف جنيه على سبيل الكفالة مقابل إخلاء السبيل على ذمة الحكم. أما مالك القناة فقد اعتبرته المحكمة “غير ذي صفة”. لم تتوفر حيثيات الحكم حتى كتابة هذه السطور.
– 4 –
أعلنت مقدمة البرنامج أنها ستدافع عن نفسها أمام محكمة الاستئناف. و لدى هذه النقطة نفسح المجال مرة أخرى لها أمام الكلمة الأخيرة للقضاء في ما يخصها شخصيًّا بعد أن برّأ بصورة نهائية مَن هم الآن في عيونه ضحاياها. هذه أول مرة أسمح لنفسي بالكتابة عن هذا الموضوع لأنني ببساطة حزين، و أرجو ألا يؤثر حديثي هذا على مجرى العدالة في ما يخص أي طرف. و لهذا سأقصر التعبير عن حزني على ذلك الموقف الذي أرى فيه صحفية كانت واعدة انتهى بها المطاف إلى موقف كهذا، عله يساعدها على ما وصلت إليه، و عله يساعد زملائي في لون من العمل الصحفي كان يمكن لها أن تتميز فيه للأسباب الصحيحة، لا للأسباب الخاطئة.
– 5 –
ربما يُفاجأ البعض حين يعلمون أنني أعتبر منى عراقي بشكل عام ضحية أكثر منها جانية. قابلتها صدفةً من نحو ست سنوات فوجدت فيها إنسانة طيبة القلب، بشوشة، كريمة، طموحة، مفتونة بما كنت أقدمه من صحافة استقصائية. لكنها ضحية نفسها أولًا، و هي ثانيًا ضحية مناخ “إعلامي” خُلق عمدًا و كان من تداعياته معجنة سهلت لكثيرين الوقوع في أخطاء، بعضها جسيم، دون رادع مهني أو أخلاقي أو قانوني. تقف وراء هذا المناخ أسباب بعضها سياسي و بعضها تجاري و بعضها الآخر له علاقة بلون من الصحافة لم تثبت قوائمه بعد في مجتمعنا، رغم قفزات تلفت النظر في السنوات القليلة الماضية.
و في صيف 2012 شرعنا في برنامج “آخر كلام” في تأسيس وحدة للتحقيقات الاستقصائية اخترنا لها اثني عشر صحفيًّا واعدًا كانت هي من بينهم. بينما تولى زميلي، ياسر الزيات، رئاسة تحرير الوحدة، كرستُ من وقتي أسبوعين لتدريب زملائي الجدد على أهم القواعد الأساسية للعمل الصحفي الاستقصائي، مهنيًّا و أخلاقيًّا و قانونيًّا. شاركت منى في إنتاج تحقيقين بعد عملية مرهقة من الإشراف التحريري و القواعد الصارمة على مدى بضعة أسابيع شعرتْ بعدها بأنها تكاد تختنق فحملت عصاها و مضت. وجدت فرصة من نوع مختلف مع غيرنا.
– 6 –
الصحافة الاستقصائية مفهوم ضخم يوظف من أجل الوصول إلى الحقيقة أدوات كثيرة متنوعة، من بينها التصوير السري في بعض الأحيان و بشروط في غاية التعقيد تعتمد – فيما تعتمد – على توفر واضح لحسن النية و تقدير صائب للصالح العام. ثمة فارق إذًا كفارق السماء و الأرض بين المفهوم و الأداة، و من يخلط بينهما يظلم نفسه و قد يظلم الناس. يحلم الصحفيون دائمًا بالسبق الصحفي، لكن التحدي الكبير الذي يرضي كبرياء أي صحفي جاد هو أن يعود بذلك السبق في إطار ما هو متاح من قانون و من أخلاق، لا عن طريق التماهر في كسرهما.
إذا اعتبرنا العمل الصحفي رُمحًا في معركة من أجل مجتمع أفضل فإن التحقيق الاستقصائي هو ببساطة سن الرمح، يمكنك أن تصيب به كبد شخص فاسد مثلما يمكنك أن تصيب به قلب إنسان برئ. و لهذا فإن نصلًا بهذه الحدة ينبغي دائمًا أن يخضع لأكثر أنواع القواعد صرامة. إنه يتعدى محاولة الإجابة على الأسئلة المعتادة في العمل الصحفي من مثل مَن فعل ماذا متى و أين كي يحفر بأظافره و أسنانه وراء أسئلة تبدأ بكيف و لماذا. هو مرهق إذًا، مرهق إلى أبعد الحدود و له مخاطره التي ينبغي حسابها بمنتهى الدقة، و قد يتحول لدى بعض أصحابه إلى أسلوب حياة. و هو يتطلب في الوقت نفسه مَعينًا لا ينضب من الشغف و الولع و “الجوع” في اتجاه الوصول إلى نهاية الخيط المستتر. هذه القيم، و غيرها، منصات يمكن أن تطلق الأدرينالين و الكورتيزون في أنحاء الجسد، و بقدر ما يمكن للأدرينالين و الكورتيزون أن ينقذا حياتك في موقف مفاجئ يمكن لهما أن يقلبا جهاز المناعة من جيش لك إلى جيش عليك. لا بد إذًا من توازن يحكم البداية و النهاية؛ فالسيارة مهما بلغ جمالها تحتاج إلى محرك تختلف مواصفاته من طراز إلى آخر، لكننا نعلم جيدًا نهاية أي سيارة بلا مكابح.