كيف كنا نعيش قبل يناير؟ سؤال ننسى أحيانًا أن نتوقف عنده.
أيام كان طموح الوطنيين أن ينجح المعارضون فى انتخابات البرلمان بغض النظر عن آرائنا الشخصية فيهم، مصطفى بكرى عن دائرة حلوان، والبدرى فرغلى عن بورسعيد وحمدين صباحى عن البرلس، وسعد عبود عن بنى سويف وغيرهم، ليكونوا صوت المعارضة القارسة فى وجه أحمد عز وعصابته، ربما لم يحققوا ما نحلم به لكن وجودهم فى الصورة فى حد ذاته كان أشبه بـ”نواية” تسند القلب.
أيام كنا نفرح بأخبار عن تغيير وزارى محتمل على الرغم من إيماننا التام أنه مجرد تغيير وجوه لا سياسات (بس أهو أى تغيير وخلاص).
أيام كنا نحلم أن تعود أيام اللواء أحمد رشدى فى إدارة الداخلية، بينما نتبادل قصصًا أسطورية عن حملاته المفاجئة على أقسام الشرطة متنكرًا، وعن احتشاد النظام الفاسد لعزله لأنه كان مستقيمًا، وعن تجار المخدرات الذين طرحوا فى الأسواق صنفًا من الحشيش مخفضًا يحمل اسم رشدى احتفالاً برحيله، بعد أن أوقف حالهم واستطاع أن ينهى أسطورة الباطنية.
أيام كان طموح بعضنا أن يأتى إسماعيل الشاعر وزيرًا للداخلية كونه أرحم من العادلى (أى حد الصراحة كان أرحم من العادلى)، كنا نحكى ونتحاكى عن وقفة الشاعر لينظم المرور بنفسه فى وسط المدينة، ووجوده فى الاستاد لا فى أرض الملعب لكن على مقاعد المتفرجين وبينهم.
أيام كنا نرى الأمل معلقًا بأن يعين مبارك نائبًا له، وكنا وقتها نرى اللواء عمر سليمان هو الأجدر بهذا المنصب، وكنا نؤمن أن وصوله إليه سيقلص الحيز الذى يشغله جمال مبارك فى الصورة العامة.
أيام كنا نرى أن مبارك نفسه أرحم من جمال مبارك.
أيام كنا نحلم بوزير معارض يصلح أن يكون بطلًا شعبيًّا.
أيام كنا لا نمتلك قصصًا نرويها بحب وإعجاب عن حكوميين شرفاء إلا عبد السلام المحجوب، عندما كان محافظًا للإسكندرية، وعادل لبيب عندما كان محافظًا لقنا، وأحمد جويلى عندما كان وزيرًا للتموين، وحسب الله الكفراوى آخر وزراء الإسكان المحترمين، وأسامة الباز مستشار الرئيس الذى كنا نصافحه فى المترو كل يوم ونلتقط معه الصور التذكارية فى الندوات والمعارض الفنية.
أيام كنا (ناخد وندى) فى حواراتنا عن أن مصطفى الفقى يعتبر (تبعنا) وحسام البدراوى بقعة أمل فى مستنقع الحزب الوطنى، وعلاء مبارك أخف دمًا من شقيقه، والجنزورى يعيش قيد الإقامة الجبرية لأنه الوحيد الذى (بجّح) فى مبارك وعائلته، وأن أبو غزالة أعاد البلد إلى مبارك بعد أن ضاعت منه فى أحداث الأمن المركزى 1986 فكافأه مبارك بالنفى من المشهد العام.
وأن رضا هلال اختفى لأنه يمتلك أدلة على انحرافات أخلاقية لشخصية عامة، وأن اللواء سعد الدين الشاذلى ممنوع من الحديث لأنه يعرف عن حرب أكتوبر ما لم يعرفه أحد بالذات عن مدى صدق أو وهم مسألة الضربة الجوية.
وأن فضيحة حسام أبو الفتوح سببها رفضه لعرض جمال مبارك فى أن يكون شريكًا فى توكيل سيارات الـ”بى إم دبليو”، وأن أحمد بهجت فى أمريكا لا للعلاج ولكن هربًا من التضييق عليه بسبب تبنى محطته لحوارات محمد حسنين هيكل، وأن فاروق حسنى مستمر فى موقعه إلى الأبد، لأنه يحوز رضا الهانم.
أيام كانت حواراتنا السياسية قائمة على الاستنتاجات والربط التعسفى بين الأخبار وتطبيقات نظرية المؤامرة والاعتماد على تكنيك “بيقولك” ومعاملة الشائعات كحقائق، كل هذا فى الوقت نفسه الذى كان النظام يتغنى فيه بسياسة (الشفافية).
أيام كان التنفيث متاحًا فى حدود متابعة جريدة الدستور قبل أن يجرى لها الدكتور السيد البدوى جراحة إزالة الرحم.
ومتابعة برنامج “القاهرة اليوم” قبل أن يتم رفع عمرو أديب من على الشاشة لأن المحطة التابع لها لم تدفع إيجار استوديوهاتها.
والالتفاف حول هامش سخرية محمود سعد من المسؤولين على التليفزيون المصرى قبل أن يهدمه على رؤوس الجميع أنس الفقى فى آخر عملية انتحارية له قبل أن يودَع السجن.
وأفلام خالد يوسف على كل ما فيها من هتاف مباشر، ومقالات عبد الحليم قنديل قبل أن يتم منعه من الكتابة، وهو قرار سبقه قيام الأمن باختطافه وضربه وتجريده من ملابسه وإلقائه فى منطقة مهجورة فى المقطم، وتتبع مقالات فهمى هويدى الممنوعة من النشر فى جريدة “الأهرام”، وسلالم نقابة الصحفيين بقيادة محمد عبد القدوس بميكروفونه الشهير، ووقفات حركات كفاية و6 أبريل التى تنتهى دائمًا باعتقالات جماعية، والتصويت للإخوان فى انتخابات البرلمان نكاية فى “الوطنى”، والتظاهر من أجل فلسطين والعراق، والاشتراك فى العمل العام لدعم جهود إغاثة غزة وغيرها، واعتصامات وإضرابات العمال التى تطورت بمرور الوقت، فقد بدأت بأن خلع عمال شركة أمنيستو ملابسهم ووقفوا شبه عراة أمام البرلمان.
ثم أخذت شكل مسيرات جنائزية تحمل نعوشًا للوطن بقيادة عمال النوبارية وشركة المعدات التليفونية، مرورًا بالأب الذى اصطحب زوجته وأطفاله الثلاثه ثم علق كل واحد منهم فى مشنقة أمام البرلمان، نهاية بـ”عبده عبد المنعم كمال” ابن مدينة القنطرة غرب الذى أشعل النار فى نفسه أمام وزارة الصحة قبل الثورة بأيام.
كان أقوى ما امتلكه البعض فى التنفيث هو استقبال البرادعى فى مطار القاهرة عقب عودته من الخارج للاستقرار فى مصر.
ثم مشروع الدولة الموازية (ببرلمانها وحكومتها) الذى تم إعداده عقب انتخابات 2010 المزورة، المشروع الذى أقلق مبارك ونفث عنه بـ”قلشة” (خليهم يتسلوا)، وقد كانت “القلشة” التى قصمت ظهر البعير.
كيف كنا نعيش قبل الثورة؟
إنها الأيام التى كنت تخاف فيها أن تدخل إلى قسم شرطة حتى لو كنت صاحب حق أو مجنيًّا عليك تريد الإبلاغ عما تعرَّضتَ له.
أيام كنت تخاف أن تدخل مستشفى عامًّا فتنقطع الكهرباء وأنت تحت يد الجراح فى غرفة العمليات، أو تدخل مستشفى خاصًّا فيتم وضعك على جهاز تنفس صناعى وإمدادك بأوكسجين مغشوش معبأ فى مصانع وطنية.
أيام كنت تخاف أن تربى ذقنك وتتردد ألف مرة قبل أن تصلى فى مساجد بعينها، وتفكر ألف مرة قبل أن تساعد عائلة ربها معتقل سياسيًّا (ارتبكت الداخلية بعد ظهور نجم الجيل الملتحى وتحوله إلى موضة، فلم تعد الداخلية قادرة على التمييز بين لحى الشباب إن كانت روشنة أم تدينًا، إلى أن أودع نجم الجيل السجن فهدأت الحيرة قليلًا، خاصة بعد تحول الشباب من إطلاق شعر الذقن إلى إطلاق شعر الصدر تعاطفًا مع قضية تمورة، نضج هذا الشباب بعد الثورة وتكتل صانعًا جمعية خيرية اسمها “إحنا آسفين يا ريس”).
أيام كنت تخاف على مستقبل أبنائك فى العثور على عمل وأنت لا تمتلك الواسطة (تم القضاء حاليًّا على الواسطة بأن تم القضاء على فرص العمل أصلاً).
أيام كنت تخاف على أبنائك من قهرة عبد الحميد شتا طالب السياسة والاقتصاد، ابن العائلة الفقيرة وصاحب تقدير الامتياز الذى تم رفضه فى اختبارات وزارة الخارجية بحجة أنه غير لائق اجتماعيًّا.
أيام عاد علم مصر إلى الحياة وظل لست سنوات -بطول ثلاث بطولات لكأس الأمم الإفريقية- بطل المشهد فى كل بلكونة وسيارة.
أيام كنا نؤمن أن الكرة تلهى الناس عن السياسة إلى أن فوجئوا أهل السياسة أن الكرة هى التى علمتنا أن نتجمع ككتلة صلبة مخيفة فى كل مرة كنا نسد فيها الشوارع فرحًا ببطولة، إلى أن استثمرت الحالة نفسها بنفسها فيما هو أهم، فكان أن تجمعت الكتلة من جديد فى الميدان متجانسة بحكم عشرة السنوات فى المدرجات والشوارع مخيفة كونها تؤمن بالمستحيل وبقوة “يا حبيبى يا رسول الله”.
أيام انشغلنا بماتش الجزائر وتوابعه، سواء معارك شوارع الخرطوم و(آه يا غالية آه يا غالية يا حبيبتى يا مصر رايتك برده عالية) أو رباعية أنجولا المهينة و(آه يا خضرا آه يا خضرا مصر فاجرة مصر قادرة).
https://www.youtube.com/watch?v=a1-nsZaw-MU
أيام كان الكلام فى السياسة لا ينصب على تزوير الانتخابات قدر ما ينصب على تزوير عقد “جدو”.
أيام كان التصويت غير مرتبط بـ”صندوق انتخابى” لكنه تصويت ناتج عن قدرة شيكابالا على التهديف من خارج “صندوق الـ18”.
https://www.youtube.com/watch?v=pzYv6nC5lk8
أيام كانت الجلسات ساخنة لا بسبب الحديث عن صفقات السياسة لكن بسبب الحديث عن صفقات عدلى القيعى.
أيام كان النظر إلى المستقبل لا يتوقف عند سؤال ما مصير البلد؟ لكن كان يتوقف عند سؤال ما مصير عصام الحضرى؟
إنها الأيام التى كانت الثرثرة تحوم فيها حول إذا ما كانت حنان ترك قد عادت لزوجها بالفعل أم أنها عودة صورية، وهل جائزة الميوزيك أوورد التى يتنافس عليها عمرو دياب وإليسا جائزة حقيقية أم يتم شراؤها بالمال.
وهل صحيح أن شوبير تم استبعاده لأنه قال لجمال مبارك فى مداخلة هاتفية “باقولك إيه يا جيمى”؟
لماذا تم استبعاد نيرفانا من “البيت بيتك”؟ وما أجر مدحت شلبى الشهرى الذى جعله يصرح أنه أغلى مذيع رياضى فى مصر؟ وهل صحيح أن عادل إمام حصل على 25 مليون جنيه مقابل صوته فقط فى إعلان “فودافون”، بينما يحصل الفخرانى على 15 مليونًا فقط مقابل مسلسل كامل؟
هل يوم كسوف الشمس سيكون إجازة رسمية؟ وكيف يكون العلاج إذا ما نظرت للشمس يومها؟ السعودية شافت هلال رمضان خلاص.. طب وبالنسبة لـ”ليبيا”؟ امتحان الفيزياء فى الثانوية العامة مأساة تنتهى بمحاولات تقطيع شرايين أو استنشاق الكُلة ووزير التعليم يؤكد أن الامتحان فى مستوى الطالب المتوسط، وأنهم سيراعون الصعوبة عند التصحيح والنتيجة نسبة نجاح تفوق 98% فى الفيزياء، لكن نسبة النجاح فى الإحصاء 60% (الوزير بيقطع من هنا ويوصل من هنا).
ثرثرة حول كيف أن سعر الشقة مئة متر فى “مدينتى” يتجاوز المليون جنيه، لأن الحديد “شاحح” فى السوق ويباع بأسعار احتكارية.
عن القطارات التى “تلبس فى بعضها” كل شهر.
عن اشتغالات الحكومة المتكررة من حزام الأمان للوحات المعدنية الجديدة للضريبة العقارية للقاح إنفلونزا الخنازير والطيور، واشتعال المنافسة فى سوق الكمامات لمنحة الرئيس التى يعقبها فى اليوم التالى مباشرة قرار برفع الأسعار بما يوزاى قيمة المنحة.
عن البيوت التى لا يخلو واحد منها من مريضين على الأقل، واحد منهما فى منتصف شبابه بينما رئيس جمهورية تعدى الثمانين يطل علينا يوميًّا دون شعرة بيضاء واحدة.
هل تغير الوضع للأسوأ أم للأفضل؟
ليس هذا هو السؤال.
ليست هناك أسئلة أصلًا.
هذه مجرد مشاهد.. للذكرى الخالدة.
سيتجاهلها البعض ولن ينساها أبدًا النوع الذى ذكره خالنا الأبنودى هنا..
نقلًا عن جريدة “التحرير”