تستقطبنا تلك الصورة الشهيرة لرجلٍ ذِي مَلامِح إنجليزية، يرتدي زيًّا كلاسيكيًّا غامقَ اللون، يَبْدو جليًّا أنَّه ينتمِي إلى حُقبة زمنية بعيدة عن عالمنا، صاحب عينين تقتربان من لون الليل المظلم، وشعر رأس أسود حالك قد تآكل من مُقدِّمته وطال عند نهايته؛ مما أحدث لمعةً في جبهته. وفي منتصف الصورة، تظهر لحية غير مُهذَّبة اختلطتْ فيها الألوان فبدتْ شاحبة.
إنَّه الشاعر والمسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير؛ ذلك الأديبُ الرائع الذي أبهر -ولا يزال- عشَّاقَ الأدب الإنجليزي والدراما بكتاباته التي تُثير الجدلَ والحيرة أيضا.
هو واحدٌ من الشعراء والمسرحيين القلائل الذين أُوتوا جَوَامع الكلم، في لغةٍ تطوَّرت وتغيَّرت على مرِّ العصور، وباتتْ الآن اللسانَ الرسميَّ لمختلف دول العالم، واللغة الوسيطة بين شعوب الأرض قاطبة، وتتحدَّث بها أكبر دولة في العالم.
كانتْ مَعْرفتي الأولى بشكسبير في المدرسة الثانوية، في نهايات النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، عندما كُنَّا نسمعُ مِنْ معلِّم اللغة الإنجليزية أسماءً لامعة في سماء الأدب الإنجليزي؛ أمثال: تشارلز ديكنز، وتوماس مور، وإدموند سبنسر، وجون دَن…وغيرهم كثير، بجانب المميَّز شكسبير. لكنَّ المعرفة الحقَّة لي مع هذا الرجل كانت في شتاء العام 2003، عندما درستُ أوَّل عمل مسرحي له “حلم ليلة منتصف الصيف”، وهو عملٌ كوميديٌّ، لكنه ليس من نوع الكوميديا التي نراها في أعمال عادل إمام أو سمير غانم، أو حتى “اللمبي”… أقصد محمد سعد!!
شكسبير الذي يعرفه الكثيرون، يمتلك تاريخًا يشوبه الغموض في بعض محطاته؛ فعلى الرغم من أنه مواليد العام 1564، إلا أن يوم ميلاده غير محدَّد على وجه الدقة، ربما لظروف العصر آنذاك؛ حيث لم يكن هناك نظام للهويات المدنية. ولعل الجانب الأكثر إثارة وحيرة في تاريخه؛ ذلك الجدل المتكرر حول حقيقة شخصية الأديب الذي ألَّف ونظّم تلك الروائع الفائقة الجمال الأدبي الممهورة بتوقيع ويليام شكسبير. فلا دارس للأدب الإنجليزي تخفى عنه جدلية “النبيل والمؤلف”، وهي إشكالية تدور رحاها حول ما إذا كان شكسبير الذي لم ينل قسطا وافيا من التعليم، فضلا عن ضيق حال أسرته؛ وبالتالي لم يُصادق نبلاء أو أمراء فتتشكل لديه صورة كاملة عن حقيقة حياتهم الباذخة أو قصورهم المنيفة، هو نفسه ذلك الرجل الذي ألَّف وأبدع مسرحيات تكشف عن أسرار -حتى وإن كانت متخيَّلة- حياة القصور والطبقة العليا في عصور غابرة!!
لذلك، كان من الطبيعي جدًّا لطلاب الأدب الإنجليزي دراسة مسرحية “بينجو” لمؤلفها البريطاني إدوارد بوند، والتي كتبها في العام 1973، واعتمد فيها على “وثيقة تاريخية”، تُظهر توقيع شكسبير في السنة الأخيرة من عمره -عندما استقرَّت به الحال في مسقط رأسه ووريكشاير- على اتفاق مع أحد الإقطاعيين في تلك الفترة، تضمن له عدم المساس بأرضه، وفي المقابل يتخلى الكاتب البريطاني الكبير عن دعم حقوق بسطاء الفلاحين، الذين يقتاتون على ما يحصدونه من محاصيل. وكانت “الخطة الإقطاعية” تقضي بوضع سياج منيع حول مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، وهو ما يعود بالضرر على هؤلاء الفلاحين.
بوند -الماركسي فكريا- ألَّف هذا العمل فيما بدا أنه هجوم على التوجهات “الرأسمالية” لدى شكسبير، في تكرار لمشاهد عبثية تحدث الآن في عالمنا بعد عدة قرون من رحيل الشاعر الإنجليزي.
المتأمل جيدا في الأعمال الخالدة لشكسبير، يدرك حتما الكثير من المعاني والقيم والمثل الإنسانية التي توارثتها البشرية عبر أجيال متعاقبة، وكذلك المكائد والأفكار الشيطانية في نفوس الأشرار، وطريقة عيش طبقة النبلاء في أوروبا، وقصص العشق والولع ومآسي الأمراء، فضلا عن روعة الخيال الشكسبيري في تصوير الساحرات والغاويات، والألغاز العصية على الفهم إلا لأصحاب الذكاء الماكر وذوي الفطنة والنباهة، أو الانتظار حتى نهاية المسرحية!
أسهبت فيما سبق لأنني -وقبل أيام- استرعى انتباهي سلسلة من الأعمال المسرحية التي يقدمها الممثل أشرف عبدالباقي، مع زُمرة من الشباب الذين عثرت لدى عدد قليل منهم على جوانب إبداعية حقيقية، وموهبة كامنة ربما ستتطور إذا وجدت التربة الخصبة لنموها، بعيدا عن الإسفاف و”الإفيهات” المصطنعة التي ربما تثير الغثيان أكثر مما تحث على الضحك.
تذكرت حينها الفارق الشاسع بين هذا النوع من الكوميديا -إذا صح الوصف- وتلك الكوميديا المختلفة التي قدمها شكسبير منذ مئات السنين، حتى في ذروة الأحداث المريرة بأعماله التراجيدية (هاملت نموذجا)، وصارت منهاجَ عمل لكثير من المسرحيين وكتاب الدراما؛ لذلك لا أجد مانعا من القول إن ثمة فجوة حقيقية “عندما يضحك شكسبير” وأي أداء كوميدي آخر.. أعلم يقينا أن العصر مختلف جل الاختلاف، والثقافة لا تمت بصلة لتلك التي سادت الحقبة الشكسبيرية، لكن أؤمن جيدا بأن الأهداف من وراء الكتابة والتأليف لا ينبغي أن تتبدل، وأن المسرحي عندما يخط بيمينه دراما حقيقية فإنه يتحتم عليه أن يضع نصب عينيه مآلات ما سيكتب؛ إذ إن أخطر ما تواجهه الثقافة من تحديات هو أن تتحول إلى سلعة استهلاكية؛ لأن نظريات الاستهلاك والتسويق تعتمد في الأساس على تلبية رغبات وشهية المتلقي/المستهلك، بينما الأدب -والثقافة بصفة عامة- يركز على الارتقاء بذائقة المتلقي؛ سواء كان قارئا أو مشاهدا أو مستمعا. وفي النهاية، أزعم أن هدف الثقافة وغايتها تغذية العقول، دون أن تتحول إلى درس أكاديمي أو محاضرة دينية.