الآن وقد انتهت الانتخابات البرلمانية، سيمكننا أن نحلل نتائجها، وأن نربطها بالسياق المجتمعى الذى نعيش فيه.
يعتقد البعض أن وسائل الإعلام تحكم الجمهور، وتشكل وعيه، وتحدد خياراته.
لكنّ آخرين يرون أن «أيديولوجية الإعلام تعكس أيديولوجية المجتمع»، كما يقول الباحث البارز فرانز فانون.
يقودنا ذلك إلى صياغة فرضية قابلة للنقاش؛ الفرضية تقول: إن الذين حصلوا على أعلى الأصوات فى انتخابات مجلس النواب هم أصحاب أعلى نفاذ إعلامى.
وبصيغة أخرى، فإن مَن تحصل أخبارهم وفيديوهاتهم على أعلى عدد من القراءات والمشاهدات هم أنفسهم الذين حصدوا أعلى الأصوات الانتخابية، أى أعلى معدلات الثقة فى أدائهم وإمكانياتهم.
سيمكننا إذن أن نبلور نتيجة يمكن صياغتها فى صورة نصيحة للطامحين إلى الانخراط فى العمل العام، عبر العمليات السياسية التنافسية.
النصيحة تقول: إذا أردت أن تحصل على ثقة الجمهور، إلى حد أن يفوضك لتمثله، فليس أمامك سوى أن تجعل هذا الجمهور يعرفك، ويتابع أخبارك، و«يشيّرها»، ويتحدث عنها بأعلى كثافة ممكنة، وإن أخفقت فى ذلك، فليس أمامك سوى شراء ولاء هؤلاء المصوّتين بالمال.
لكن ما الطريقة التى يمكن من خلالها لأى شخص فى مصر أن يصبح نجماً فى الأخبار، وبالتالى أن يصبح نجماً فى المجتمع، أو قائداً سياسياً، أو عضو برلمان.
استناداً إلى نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فالإجابة تنحصر فى خيارين: أولهما أن تشترى أصوات الناس، وثانيهما أن تمارس سلوكاً منفلتاً وحاداً، يحظى باهتمام الجمهور والإعلام.
سيفسر لنا هذا سبب السلوك المشين لتلك النجمة، التى تحرص خلال برنامج تشارك فيه، على أن تستخدم حذاءها للتعبير عن رأيها.
كما سيفسر لنا أيضاً لماذا لجأت تلك الممثلة التى تقدم برنامجاً تليفزيونياً إلى التصريح بأنها «تشاهد الأفلام الإباحية»، وإلى دعوة الشباب لمشاهدة تلك الأفلام.
وسيشرح لنا هذا السبب الذى من أجله تصر تلك القناة الفضائية على إعادة توظيف تلك المذيعة التى اعتادت ارتكاب الجرائم الشنيعة على الهواء بدم بارد.
سنحصل على إجابات شافية لأسئلة عديدة بدت صعبة ومعقدة.
ما الذى يجعل هذا الإعلامى يصر على الظهور يومياً على تلك الشاشة البائسة، ليغرق مشاهديه فى الرداءة والخطل، ويهينهم، ويسبهم، ويتلاعب بعقولهم؟
وما الذى يجعل تلك الناشطة حريصة على أن تصدم الجمهور يومياً بتصريح أو «تويتة» أو حوار يحمل أفكاراً منفلتة وغائمة وإشكالية؟
وما الذى يجعل هذا الرجل شغوفاً بتوجيه السباب، واغتيال سمعة الناس، وتهديدهم، والتجرؤ على أى قيمة أو اعتبار؟
وما الذى يجعل هذا المذيع مُصرّاً على أن يظهر كل ليلة على التليفزيون مدلساً ومزيفاً ومحرضاً على العنف والكراهية؟
وما الذى يجعل هذا النجم الكبير، الذى صودرت منصاته، وبات يخشى احتمالات النسيان، يتورط فى استخدام ألفاظ مسيئة (سباب حوارى)، خلال تقديمه حدثاً مرموقاً؟
الإجابة باتت سهلة وبسيطة: إنهم أذكياء.. يفهمون مجتمعهم، ويتعاملون معه بما يليق به.. وكل واحد منهم بإمكانه، لو أراد، أن يترشح للانتخابات، ويحصد أعلى الأصوات.
المعادلة واضحة كما لم تكن من قبل: الممارسة الحادة والشاذة والمأفونة طريقك إلى النفاذ والرواج.. ومن خلال النفاذ والرواج ستحصل على الشهرة.. التى يمكن ببساطة شديدة تحويلها إلى أصوات انتخابية، تعكس ثقة الجمهور فى قدراتك وإمكانياتك، وتدفعه إلى أن يطلب منك أن تمثله وتحكمه.
أين سيذهب إذن الحكماء، والباحثون، والعلماء، والسياسيون البارعون، والمُجدّون، وأصحاب السمعة الحسنة والإنجازات؟
على الأرجح، فإن معظم هؤلاء لن يعرفهم الجمهور، وبالتالى لن يصوّت لهم.
الإعلام يعكس أيديولوجية مجتمعنا.. وأيديولوجية مجتمعنا فى الحضيض.