كنت طالباً فى المعهد العالى للسينما حينما ذهبت لمشاهدة مسرحية الملك لير ورأيته أمامى للمرة الأولى ملكا مهيبا يلعب به عقله فيقف على المسرح يتأرجح بين عظمة الملك وضياع العقل بالخرف.
وأصابنى الذهول، لم أكن أتصور فى حياتى أن أرى قدرة على التشخيص بهذا الشكل، وكيف يستطيع إنسان أن يتحكم فى مشاعره إلى هذه الدرجة فيصعد فى لحظة سلم المشاعر إلى درجة البكاء، بعد أن كان قبلها بجملة واحدة فقط قادراً على جعل نفس المسرح يضج بالضحكات، كانت ليلة لا تُنسى جعلتنى أعيد النظر فى فن التمثيل وأقع فى غرامهما معاً، التمثيل ويحيى الفخرانى، وجاءت الفرصة التالية لألتقى به محترفا ككاتب سيناريو سنة ٢٠٠٩، بعد أن ظهر لى عملان فقط «الرحايا حجر القلوب» المسلسل الذى قدمنى للجمهور، وفيلم «على جنب يا أسطى» فى السينما، كان اللقاء فى شقته فى العباسية، وكنت بصحبة حسنى صالح المخرج، وكان الارتباك هو المسيطر علىّ، كيف أستطيع أن أقنع هذا الطراز النادر من الممثلين ببضاعتى وبأى وجه سيلقانى، مئات الجمل على باب الشقة تُكتب وتُمحى فى رأسى لأجده يستقبلنا بجلباب بسيط
وابتسامة طيبة وغرقت فى صمتى، فالشخصية المعروضة بالأساس شخصية هناك ألف سبب منطقى لكى يرفضها، فهى شخصية (شيخ العرب همام) رجل يكاد لا يذكره التاريخ إلا فى سطور قليلة وفترة تاريخية تكاد تسقط من صفحات الجبرتى عدا عدة سطور لا تسمن ولا تغنى من جوع، والشخصية فى أجواء الصعيد فى القرن السابع عشر، ويحيى الفخرانى أبيض الملامح أخضر العينين وشيخ العرب همام شيخ قبيلة فى قنا ورجل حرب وطعان، لابد أنه سيرفض وبشدة وربما يعاتبنى كيف أعرض عليه مثل هذه الأفكار، انتهت مهلة الصمت وأتى الشاى والحلويات وعلىّ أن أحكى وسمعنى جيدا، ولم يقاطعنى ولو لحظة
وأنا أسرد عليه القصة والشخصية وأناوله الحلقات الأولى من العمل ليباغتنى بسؤال يجعلنى أعرف أكثر مَن هذا الرجل الاستثنائى، سألنى: هل تراها قصة تخرج من قلبك يا عبدالرحيم وتصدقها؟ هتفت بحماس شديد: جدا، فابتسم، وكان مسلسل شيخ العرب همام، الذى جسده وكأنه الرجل المولود فى فرشوط، الطامح فى الزعامة، المولع بنسبه العريق وأصله العربى وقوميته، الحاكم القوى، الديكتاتور العادل، الذى تقتله الخيانة، حتى إن البيوت بكته فى الحلقة الأخيرة حين مات كمداً بفعل خيانة ابن عمه وكأنه حلمهم الخاص الذى تحطم، لقد صدق الرجل نبرة صوتى وأنا أحكى له أكثر من كل الأسباب المنطقية والمقنعة، وكان ذلك هو الاتفاق الصامت المشترك بيننا فى الأعمال الثلاثة المتتالية التى قدمناها سوياً، يتحمس لما يراه يلمع بصدق داخلى، وينفر بشدة مما يراه مفتعلا وغير حقيقى، ثم يبتسم معقبا حينما نصل إلى فكرة تبدو جميلة ولكنها لا ترضيه: ولماذا نصنع شيئا لا يمتعنا ونحن نصنعه؟ فأرد بحماس كاذب وقد أدركت مقصده: ألم تعجبك الفكرة؟ فيهز رأسه ضاحكا: لم تعجبك أنت يا عبدالرحيم، حينما تعجبك الفكرة وتصدقها أصدقها أنا، فأتراجع بسرعة ونبدأ فى البحث عن فكرة أخرى نصدقها وتمتعنا معا، مع نهاية تصوير شيخ العرب همام عرضت عليه فكرة الخواجة عبدالقادر فاستمع جيدا ثم تراجع عنها بحجة أنها مبنية على قصة حب بينه وبين فتاة صغيرة وأن ذلك ليس مناسبا وغير مصدق.
وكانت فكرة الخواجة عبدالقادر داخلى حلما قديما احتفظت به سنوات طويلة من حكايات أبى ولم تغادرنى أبدا، كنت أشعر بأنها ليست مجرد فكرة بل تفاحة من تفاحات نيوتن التى لن أتركها تسقط أبدا إلا فى حجر الجمهور، وأن علىّ طوال الوقت أن أرعى تلك التفاحة وأنضجها أكثر، وبالفعل حدث التطوير والتغيير والتقيت بيحيى الفخرانى فى بيته الجديد بالمقطم، وكان يستعد لأعمال أخرى وتراجع عنها وسألنى: ماذا لديك؟ فقلت: الخواجة عبدالقادر، فابتسم: تاااانى…؟؟؟
فقلت بحماس يحبه: لقد تغيرت. وسردت له قصة الإنجليزى الملحد الذى غيره الحب وجعله الحب الإلهى عاشقا ووليا يمشى على الأرض ويتحمل أخطاء الناس وقسوتهم، فهز رأسه موافقا بلا تعقيب، فكان مسلسل الخواجة عبدالقادر، وعُرض فى رمضان من الرمضانات المحيرة فى مصر سنة ٢٠١٢ حين كان المصريون بأكملهم فى حالة انقسام شديد وحيرة بعد الثورة، ومفاهيم كثيرة تُطرح عن الدين لا تروق لهم فجاء المسلسل بلسما شافيا للجروح، يطرح دين المحبة، حتى إن الناس تعاملت مع يحيى الفخرانى على أنه الخواجة الولى الطيب، والحقيقة أنه بالفعل يحمل قلبا لم تغادره الطفولة بعد، يختار به غالب أعماله، طفولة تجعله يتحمس بقلبه وليس بعقله وحسبة المنطق، وبعدها مررنا بأزمة (نجاح الخواجة) وماذا نستطيع أن نقدم بعد تلك الخطوة؟
واحترت واحتار دليلى وعرضت على نجمى المفضل أفكارا كثيرة لا أصدقها، وبالتالى يكشفنى بسهولة بقلبه ونهرب إلى أفكار أخرى، وحينما كنت على مشارف اليأس وأنا عنده ضيفاً فى عيد ميلاد حفيده يحيى أعطانى مسرحية الملك لير وقال كلمتين: اقرأها وشوف، وغادرت وأنا فى حيرة أكبر، لقد أعادنى لنقطة الصفر، للمرة الأولى التى رأيته على المسرح يعرض قصة ذلك الملك التعيس، وكيف أستطيع أنا أن أغامر بقصة تدور فى بلاد الإنجليز من مئات السنين لتدور فى بلادى فى جنوب مصر فى العصر الحالى، وهربت منه شهرين حتى عدت إليه بالباسل حمد الباشا وأخته سكن وابنها حمدتو وبناته الثلاث رابحة ونوال ونعمة، وسميتها «دهشة» وما إن انتهيت من قراءة المعالجة حتى ابتسم وقال: جميل الباسل ليس هو لير لكنه من روحه، وكانت «دهشة» ليس فقط اسم المسلسل لكنها الدهشة التى لازمتنى فى صحبة هذا الفنان المختلف الذى يستمد نجاحه من صدق الكاتب وصدق حدسه، فالقصة بيننا ليست قصة كاتب ونجم كبير فى التمثيل لكنها قصة حب للأفكار الصادقة، هو يقدر الكاتب ويصدقه، وأنا مغرم بالممثل الذى يتحكم صعودا وهبوطا فى سلم المشاعر، وكأنه سلم بناه بيده وصدقه بقلبه وأناره بعقله، فكان لذلك هو يحيى الفخرانى نجمى المفضل.