(1)
نشر موقع إخباري قبل أيام قليلة صورة لفنان مصري محترم، وكتب تحتها هذا العنوان: «محمود حميدة: لم أنزل ميدان التحرير يوم 25 يناير لأنها ثورة عيال». من يكتفون بقراءة العناوين – وهم كثر فى العالم، خاصة فى بلادنا العربية – سيفهمون أنه ضد الثورة وأنه يسخر ممن شاركوا فيها ويحط من شأنهم. تنتقل إلى تفاصيل الخبر فتكتشف أنه لم يكن ليعبّر عن موقفه المؤيد للثورة بمثل هذا الوضوح وبمثل هذا الاحترام حين يقول: «الثورة خلعتني من جذوري وهزتني هزة كبيرة لأن حلمنا جميعًا كان الثورة، ولكني لم أنزل ميدان التحرير فى الثورة مطلقًا، لأن هذه الثورة ليست لي ولا لجيلي؛ فهي ثورة عيال قام بها الشباب، ولو نزلت سأكون دخيلًا عليهم وهعمل فيها ثورجي، ولكن الثورة كانت للشباب ونجحت بهم». ومن سخريات القدر أن من كتب الخبر اسمه «جمال عبد الناصر».
(2)
هذا مثال جيد على مدى الانحطاط فى صياغة عناوين الأخبار والموضوعات الصحفية. ستحتاج إلى مجهود كبير ووقت طويل وأنت تحاول إحصاء أمثلة أخرى لا حصر لها على مدى الشهور القليلة الماضية. فى أفضل الحالات سيقودك افتراض حسن النية إلى استنتاج تدهور هائل فى صنعة الصحافة تحت الضغوط التجارية للتوزيع و«الترافيك». وفى أسوأها ستقودك أجندات السلطة والسياسة وطلاب المال إلى ما هو أعمق. أحد الأمثلة على هذا سبق المثال أعلاه بيوم واحد. انطلاقًا من موقف واضح لا يصلح معه افتراض حسن النية، واعترافًا بالتأثير الهائل للعنوان الصحفى فى شعب لا يقرأ، سطا أحدهم على عنوان خبر فى موقع «المصري اليوم» يقول: «بالصور/ السيسي يتناول الإفطار مع طلاب كلية الشرطة»، كي يغير حرفًا واحدًا فيه فيصير «بالصور/ السيسي يتناول الإفطار مع كلاب كلية الشرطة». ستدخل إلى تفاصيل الخبر وستكتشف أنه لا وجود لكلمة «كلاب» على الإطلاق، وربما تخمن أنها خطأ مطبعي، وربما تتساءل عما إذا كان هذا خطأً عفويًا أم مقصودًا، وسيكون العنوان قد ترك أثره – ربما إلى غير رجعة – لدى القارئ العابر، وستقع الجريدة كلها فى مرمى النيران بعد أن وقعت ضحية لجريمة تزوير مغرض.
(3)
هذا «التزوير المغرض»، كما فى المثال السابق، يأتيك من كل اتجاه، مثلما يأتيك من كل اتجاه «قلب المعنى رأسًا على عقب»، كما فى المثال الأول. لكنّ هناك أساليب أخرى أكثر قابلية للبلع السريع من وجهة نظر حلقوم ثلاثة أنواع من القراء: القارئ العابر، والقارئ غير المثقف إعلاميًّا، والقارئ المتشرنق المستعد دائمًا لتصديق ما يؤيد موقفه بغض النظر عن مدى صحته. من أبرز هذه الأساليب، ومن أكثرها انتشارًا بعد الثورة، أسلوب «الاجتزاء»، وأسلوب «نفى السياق»، وأسلوب «الجمع والقصر»، وأسلوب «الإحالة»، وأسلوب «الإسقاط».
(4)
بلغ عدد ضحايا هذه الأساليب وغيرها، فقط ممن نعرفهم بشكل شخصي ومن مختلف الاتجاهات، حدًّا مخيفًا، فما بالك بمن لا نعرف؟ سأحفظ لكل متضرر حقه فى الرد على ما يخصه بما يراه مناسبًا، وسأقصر ضرب الأمثلة على جانب مما يخصني؛ رغم أن الأمر صار من الانتشار ومن البدائية ومن العبثية بحيث لم يعد مجديًا أن تكلّف نفسك عناء التوضيح.
تكتب مقدمة لبرنامج «آخر كلام»، يستحسن أحد الأطراف جانبًا منها فيجتزئه وحده دون بقية المقدمة ويسميه «مقدمة نارية»، لكنها بهذا «الاجتزاء» تخل بالمعنى وتضر قائلها أبلغ الضرر. تتحدث فى حوار مع قناة «بي بي سي» فيلتقط أحد الأطراف جملة اعتراضية – اعتراضية بالمعنى الحرفى للكلمة – ويتخذ منها عنوانًا عريضًا خارج السياق الذي أتت فيه: «فلان الفلاني يطالب بعودة جماعة الإخوان الإرهابية»، بينما كان هذا سياقها فى النص الحرفي: «إن كان للتيار الإسلامي والإخوان أن يعود مرة أخرى إلى نسيج المجتمع المصري – وينبغي له أن يعود – فإن عليه أن يقف أمام تلك اللحظة، وأن يدرك لماذا أدركت أغلبية من الشعب المصري هذه الحقيقة (أن محمد مرسي بعد الإعلان الدستوري وأحداث الاتحادية لم يعد رئيسًا لكل المصريين)، ثم نتحدث بعد ذلك عن أخطاء، بعضها أخطاء جسيمة، من الطرف الآخر». «نفى السياق» بهذا المعنى مقصود لغرض واضح لا يدركه عادةً القارئ العابر.
و من أمثلة «الجمع والقصر» أنه قبيل عودتي لاستئناف العمل فى نوفمبر/تشرين الثاني 2013، طلبت مني إحدي الصحف اليومية حوارًا تمهيديًا فاشترطتُ أن يبعثوا بما شاءوا من أسئلة على أن أرد عليها كتابةً اتقاء أي لبس أو سوء فهم. تركت لهم حرية اختيار العناوين التي أتت فى النسخة الورقية معقولة تعبر بأمانة عن صلب الحوار، من نوع: «فلان الفلاني: الإعلام أصيب بحالة سُعار بعد 30 يونيو .. الحقيقة لا تحتاج إلى مجهود لإظهارها .. التيار الإسلامي لن ينتهي من الساحة .. جماعة الإخوان اتجهت فى الفترة الأخيرة من حكم مرسي إلى الانفراد بالحكم واختطاف مصر وتغليب مصالحهم على مصالح الوطن». لكن المسؤولة وقتها عن الموقع الإليكتروني للجريدة سمحت لنفسها بانتزاع جمل مبتسرة من الحوار كي تركّب عنوانًا واحدًا لهذا الحوار: «فلان الفلاني: السيسي شخص لديه قدرة على قراءة الموقف .. ومن حقه الترشح للرئاسة». أما السؤال الذي اعتمدت عليه مسؤولة الموقع وقتها فى صوغ هذا العنوان فكان هذا نصه: «هل توافق على أن يترشح (السيسي) لرئاسة الجمهورية؟» وكانت الإجابة: «الصحفى لا ينبغي له أن يكون مع أو ضد، وأنا أؤمن بأن من حق أي إنسان مصري أن يترشح للرئاسة بما ينظمه القانون. فإذا أجمع ما يكفى من المصريين على انتخاب شخص ما، فإنني كصحفى سأقول إن غالبية المصريين انتخبوا ذلك الشخص».
أما «الإحالة» فمن أمثلتها هذا العنوان: «فلان الفلاني يهاجم الجريدة الفلانية بسبب محمود حميدة»؛ فما حدث لم يكن هجومًا، بل نقدًا تعرض للموضوع ولم يتعرض للجريدة ولا لأشخاص. وأما «الإسقاط» فمن أمثلته هذا العنوان: «فلان الفلاني: ستقوم فى مصر ثورة وسيكون الانتقام عنيفًا»، وهو فى الواقع جملتان اقتطعتا من مقال سابق كان يتحدث عن الماضي لا عن الحاضر.
(5)
تلك كانت أمثلة قليلة لبعض الأساليب السيئة فى اختيار العناوين الصحفية لجانب صغير مما يخصني وحدي، ولا يوجد عندي شك فى إدراكك حجم مأساة كهذه فى «صحافة» مصر. وأخيرًا، ربما تتساءل الآن: «و ما علاقة عنوان هذا المقال بما جاء فيه؟» وستكون الإجابة: «تفرق كتير يعني؟ مقالي وأنا حر فيه يا أخي».