إعادة اختراع المهنة، بما يتناسب مع الإمكانيات المتاحة بفضل الويب، تحدٍّ لم يعد بإمكان الصحافة التهرّب منه. تحطيم أسس المهنة بحجّة مواكبة التكنولوجيا، خطر حاضرٌ بقوّة أيضاً، ويهدّد ما بقي من حرفة تراكمت أصولها عبر عشرات السنين. وبين هذا وذاك، يبدو أنّ المرحلة الانتقاليّة من الصحافة كما نعرفها، إلى نمط عمل آخر لم يرتسم بوضوح بعد، ستكون صعبة. وبدأت تلك المعضلة تتخذ شكلاً أكثر إلحاحاً، بفعل بعض سياسات الدمج الفاشلة، بين المطبوع والالكتروني.
قبل أيّام، استقال رئيس تحرير «شبيغل» الألمانيّة ولفغانغ بوشنر، بعد 15 شهراً فقط من تولّيه مهمّة الدمج بين غرفتي تحرير الورقي والالكتروني، وتبعه أوفي ساف، رئيس المؤسسة الإعلاميّة العريقة الذي دعم بشكل قوي مشروع الدمج، بحسب صحيفة «ليبراسيون» الفرنسيّة.
على الجانب الآخر من الأطلسي، ينشغل الوسط الإعلامي في واشنطن منذ يومين، بالاستقالة الجماعيّة لعدد كبير من محرّري وكتاب مجلّة «ذا نيو ريبابليك» العريقة، بسبب مخطّطات مالكها كريس هيوز (31 عاماً)، لتحويلها إلى «شركة إعلام رقمية مندمجة عمودياً». ما الذي يعنيه ذلك؟ سؤال طرحه صحافيون كثر في مقالات نشرت بين «نيويورك تايمز»، و»فايننشل تايمز»، و»فوكس نيوز»، من دون إيجاد إجابة واضحة حول ماهيّة تلك «الشركة الرقميّة المندمجة عمودياً»… الأكيد أنّ الفكرة لم تعجب فريق التحرير، فاستقال معظم أفراده خلال فترة لم تتجاوز 24 ساعة، بدءاً من رئيس التحرير فرانكلين فووير، والناقد الأدبي ليون وايزلتييه، ما أدّى إلى إعلان المجلّة تأجيل صدورها إلى شباط/ فبراير القادم.
متعجرفو«سيليكون فالي»
حظيت قضيّة الاستقالة الجماعيّة من المجلّة الأميركيّة بنصيب واسع من السجال الإعلامي، لرمزيّة الصدام بين عقليّتين مختلفتين في مقاربة مستقبل الصحافة. صدامٌ وصفته بعض الصحف «بالدمج الصعب/المستحيل بين سيليكون فالي والإعلام». فكريس هيوز هو أحد الشركاء في تأسيس «فايسبوك»، وكان شريك مارك زوكربرغ في سكن جامعة هارفارد، كما قاد الحملة الانتخابيّة لباراك أوباما على مواقع التواصل في العام 2008.
وكغيره من المستثمرين (بيار أوميديار، جف بيزوس)، يبدو أنّ هيوز يعاني من «فيتيش» تثوير الصحافة. وحين اشترى «ذا نيو ريبابليك» في العام 2012، تمّ التعاطي معه كمنقذ للمجلّة الشهريّة التي تحتفل هذا العام بمرور قرن على إصدارها. لكنّ «شهر العسل لم يدم طويلاً»، كما يقال، وبدأت خطط هيوز تزعج المحرّرين، خصوصاً بعدما عيّن الإداري السابق في «ياهو» غي فيدرا، مديراً تنفيذياً للمؤسسة، ثمّ استقدم الصحافي في «بلومبرغ» غبريال سنادير لقيادة خطّة الدمج القائمة أولاً على خفض الأعداد السنويّة إلى عشرة، ونقل المكاتب من واشنطن إلى نيويورك.
ونقلت مواقع عدة عن صفحة «فايسبوك» الشخصيّة لمديرة تحرير المجلّة المستقيلة جوليا ايوف قولها إنّ «من يديرون المجلّة الآن، سيجعلون الأمر يبدو وكأنّ المستقيلين ديناصورات تخاف من الانترنت، وتظنّ «بازفيد» إهانة». وذلك ما شدّد عليه بيان صادر عن 19 صحافياً من المستقيلين جاء فيه: «ذا نيو ريبابليك» «لا يمكن أن تكون مجرّد علامة تجاريّة»، وهي لم تكن ولا يمكنها أن تكون «شركة إعلاميّة» تسوّق لـ»مضمون». مقالاتها النقديّة وتحقيقاتها والقصائد المنشورة فيها ليست «منتجاً» (…) وخلال قرن من الزمن، اجتازت بنجاح تحوّلات عدة طرأت على «المشهد الإعلامي»، استثمرتها لجعل عملها أكثر قيمة، وليس عملاً عفا عليه الزمن».
من جهته، نشر هيوز مقالاً في «ذا واشنطن بوست»، عبّر فيه عن أسفه لما آلت إليه الأمور، وكتب: «جئت إلى المجلّة لكي أحمي مستقبلها من خلال خلق «بزنس» مستدام». وأضاف: «التقنيات الجديدة والناشئة تثيرني، لكنّي مقتنع بأنّها لا تجعل حياتنا ومؤسساتنا أفضل بالضرورة».
انقسم صانعو المهنة بين طرفي الأزمة. موقع «ذا دايلي بيست» خصّص مقالاً للسخرية من عجرفة هيوز وقلّة خبرته. وشبّهه كاتب المقال بالأمير جوفري بطل مسلسل «لعبة العروش»، متهماً شركاءه الجدد بالجهل بأبسط قواعد المهنة، وحتى طريقة لفظ أسماء الصحافيين المستقيلين. كما اتهمه «بتدمير» مجلّة عمرها 100 عام، كان لها أثر كبير في صناعة الثقافة السياسيّة والفنيّة لجيل كامل من القراء في العاصمة الأميركيّة.
في المقابل، كتب عزرا كلاين مؤسس موقع «فوكس نيوز» أنّ ما تمثّله المجلّة، وغيرها من المطبوعات المماثلة، مات منذ زمن، قبل شراء هيوز لها. وكتب مدوّنون أنّ محاولة إنقاذ المؤسسة عبر البحث عن نموذج اقتصادي ناجح، ليس أمراً مسيئاً لإرثها بالضرورة.
أزمة عالميّة
تذكّر الاستقالة الجماعيّة من «ذا نيو ريبابليك»، بأزمة صحيفة «ليبراسيون» الفرنسيّة في شباط/ فبراير الماضي، حين أعلن فريق التحرير الإضراب العام، احتجاجاً على سياسة المالكين لاستثمار «ماركة» الجريدة، في مساحات خارج الصحافة، قيل يومها إنّها قد تشمل مطعماً وفضاءً ثقافياً وشبكة تواصل اجتماعي. على أثر تلك الأزمة، استقال مدير تحرير الجريدة فابريس روسولو، من دون أن تُحلّ الأزمة الناتجة من خطط الدمج بين الويب والورقي، وما خلّفته من خلل في دورة العمل. وفي أيّار/ مايو 2014، استقالت أوّل امرأة تتولّى إدارة صحيفة «لو موند» الفرنسيّة، ناتالي نوغايريد، بعد رفض فريق التحرير خطّتها للدمج.
ذلك في المطبوع، أمّا في الرقمي، فالأمر مبهم أيضاً، إذ استقال الصحافي مات تايبي من مؤسسة «فيرست لوك ميديا» قبل إطلاق المجلّة التي كان يسعى لإرساء فريقها، بسبب خلافات في إدارة العمل، بينه وبين فريق مالك المؤسسة بيار أوميديار.
في المقابل، تعبر مؤسسات إعلاميّة عريقة بكلّ سلاسة مرحلة الدمج تلك، وفي مقدّمها صحيفة «ذا واشنطن بوست» الأميركيّة التي استحوذ عليها رجل الأعمال جف بيزوس العام الماضي. إذ إنّ عمل الصحيفة لا يزال متواصلاً بشكل طبيعي، على المنصّات كافة، من دون خضّات تستدعي الجدل. من الأمثلة الناجحة أيضاً، «ذا غارديان» البريطانيّة التي يعدّ موقعها بين أوّل خمسة مواقع إخباريّة تصفحاً في العالم، إلى جانب نجاحها بتحقيق المزيد من الأرباح بفضل المنصات الرقميّة، من دون أن تقدّم تنازلات على صعيد الأخلاق المهنيّة، أو رصانة المضمون الصحافي. إلى جانب ذلك، يقدّم موقع «فوكس نيوز» الإخباري الناشئ، نموذجاً عن الصحافة الرقميّة الناجحة، إذ قدّرت قيمته مؤخراً بنحو 380 مليون دولار، وهو مبلغ أكبر من الـ250 مليون دولار التي أعلن أوميديار نيّته استثمارها في «فيرست لوك»، والتي دفعها بيزوس لشراء «ذا واشنطن بوست» العريقة.
بالرغم من أنّنا أمام ظاهرة عالميّة بدأت إرهاصاتها تصل إلى العالم العربي، إلا أنّ استنتاج الخلاصات العامّة منها سيكون أمراً متهوّراً. الأكيد أنّنا أمام أفول عصر وولادة عصر آخر، ولكلّ منهما لغته ومنطقه ومفاهيمه. فمن جهة، لا يمكن لكلّ الصحف تبنّي نموذج «بازفيد»، «غول النقرات»، وما يتبع ذلك من إطاحة خبرات وممارسات مهنيّة تراكمت على مرّ سنوات. كما أنّ مواكبة «التطوّر»، لا تعني بالضرورة خسارة المصداقيّة والدقّة، عبر اللجوء إلى الاستسهال والابتذال في اختيار العناوين، أو تحويل الجرائد إلى آلة لنشر الشائعات. في المقابل، يرى منظّرون وأكاديميون أنّ الانترنت قادر على منح حياة أخرى لمهنة الصحافة، عوضاً عن تدميرها، وذلك لناحية استثمار المساحة المتاحة على المواقع في نشر خرائط، وقواعد بيانات، وأشرطة فيديو وصور، تجعل المادّة المكتوبة أكثر إمتاعاً وجدارة بالقراءة. المفتاح لكلّ ذلك فرق صحافيّة قادرة على تقديم مضمون مهنيّ يليق بعقول القراء، مهما كانت المنصّة.
نقلًا عن “جريدة السفير”