هل حقاً غادرتنى أمى؟ من المؤكد أنها ذهبت قبل ساعات للشاطئ الآخر، إلا أنها لا تزال تعيش معى، كانت تسكن عينى وقلبى فصارت تسكن للأبد قلبى، كانت فجرا فأضحت ضوءا، كانت شمسا فتوهجت شعاعا، لم أعد بعد اليوم قادرا على أن أحضنها أو أسمع صوتها هذه هى الحقيقة، ولكن حضنها لا يزال يدفئ صدرى، وصوتها يومض فى أذنى، كنت أمسك بيدها قبل أن يُسدل الستار بلحظات، قال لى الطبيب إن قلبها لم يستجب للصدمات الكهربائية، فهل جاءت كلماته تعنى انتهاء الحياة، هل تموت من أعيش لأجلها، لم أفهم أنه يقصد الإشارة للموت، أو ربما فهمت ولكنى لاشعوريا استبعدت تماما تبعات الكلمة، نعم كلنا نمضى وتُسرع خطواتنا للوصول إلى جسر الموت، إلا أننا فى العادة ننسى أننا نمضى فى كل لحظة نحياها حثيثا إلى خط النهاية، برغم دخول أمى للعناية المركزة مرة قبل نحو عام ونصف، إلا أننى كنت أنحى جانبا خاطر الموت، ثم إن كل مظاهر الحياة على وجه أمى تُكذب كلمات الطبيب، يدها كانت تقبض بحنية على معصمى، جهاز التنفس الصناعى لا يزال يحرك صدرها، هى إذن تواصل الحياة، قالت لى الممرضة إنها تترك الجهاز ساعتين ولكنها أضافت أن هذا لا يعنى شيئا، ولم أطلب منها سوى أن تتركنى مع أمى جلسة انفرادية وكأنها تمنحنى ساعتين خلسة خارج الزمن، ووجدتها فرصة لكى أمارس، كما تعودت معها، الإفصاح عمليا عن حبى لها وظللت أمطرها بالقبلات، كنت أنانيا أريد أن أحصل على أكبر رصيد ممكن يكفينى ما تبقى لى فى الدنيا من أيام، يقولون إن من علامات الموت برودة الجسد، أبدا كان وجه أمى دافئا، يقولون إن العين تفقد تواصلها مع الحياة، أبدا كانت عيناها تتجاوبان معى، ثم تلك الابتسامة التى لا تفارقها، والسكينة التى تسكن وجهها، فما علاقة كل ذلك بالموت.
تعودت منذ أن جاءنى خبر انتقالها للرعاية المركزة بعد أن قطعت رحلتى لمهرجان «دبى» أن أذهب لأمى يومياً أقبلها وأداعبها، كانت الأجهزة فى جسدها تعوق قدرتها على الكلام، ولكن عينها الراضية كانت تتولى الإجابة بكل مفردات الحب.
اكتشفت أنى ورثت مهنة النقد عن أمى، فهى الناقد اللاذع لى والذى أعمل له ألف حساب، وهى فى نفس الوقت قارئ جيد جداً للصحافة، قبل بضع سنوات فقدت قدرتها على القراءة، إلا أنها ظلت على تواصلها مع أجهزة الإعلام، تتابع بشغف التليفزيون ولها دائما رأى تعلنه وتدافع عنه، بين الحين والآخر كانت بيننا مساحة من الاختلاف فى الرأى وهى ديكتاتورية تعتبر أن رأيها صواب لا يحتمل أبدا الخطأ ورأيى أنا خطأ لا يحتمل أبدا الصواب، فهى مثل أغلب المصريين تميل لتشديد الرقابة فى عدد من المشاهد وتجرحها بعض جمل الحوار فى المسلسلات، وتتبنى وجهة نظر الأزهر الشريف فى أنه لا يجوز تجسيد الأنبياء على الشاشة، وكثيرا ما دارت بيننا مساجلات فى تلك النقاط، فلا تحيد أبدا عن رأيها، إلا أنها لم تكن متزمتة أبدا فى تقبلها للنقد الاجتماعى فى الأعمال الفنية ولهذا مثلا أحبت مسلسل «تحت السيطرة» وتفهمت أهمية مشاهد التعاطى، وكانت سعيدة بنيللى كريم، وعندما اتصلت بى نيللى فى رمضان الماضى تشكرنى على كلمة كتبتها عنها كانت أمى أيضا على الخط تحادثها.
أمى عائشة حسين رفعت والدها كان رئيساً لتحرير جريدة البلاغ الرسمية، من الواضح أنها ورثت الإحساس الصحفى عن جدى، كانت تعلم أن الصحافة هى أمنيتى منذ الطفولة، ومن أجلها كنت أحرص على المذاكرة، وهى تراجع وتُسمّع لى الشعر حتى المرحلة الابتدائية، فلقد كانت تحمل هذه الشهادة، ولم تُكمل لأنها تزوجت أبى وهى فى الرابعة عشرة من عمرها، دائما هى التى تتابعنا أنا وأشقائى فى الدراسة، كنت أحرص على النجاح حتى لا تحزن أمى، وفى كتاباتى الصحفية كنت أحرص على أن أحوز رضاها، الصحفى الراحل مجدى مهنا هو كاتبها المفضل لأنه كان جريئا فى توجيه النقد لمبارك، رأيها أن هذه هى الصحافة وإلا فلا، ووضعتنى فى قائمة «فلا»، قناعاتها أن الصحافة الحقيقية هى فى السياسة والباقى مجرد شروع فى ممارسة المهنة، وكثيرا ما كانت تتواصل مع مجدى سواء وهو فى زيارتى أو تليفونيا، وأتذكر أننى فى عام 2005 عندما بدأت الكتابة فى جريدتى «الدستور» و«صوت الأمة» وبين الحين والآخر كانت تقرأ فى كتاباتى مذاق الغضب والرفض للكثير من الأوضاع السياسية وجدتها فى البداية سعيدة، ولكن يبدو أن هناك من حذرها من تبعات التطرق للقضايا السياسية، وبدأت تعلن أمامى أن الكتابة فى الفن هى الصحافة الحقيقية، أما الكتابة السياسية «فلا».
الرحيل دائما يأتى مباغتاً، بينما مراسم الوداع إيقاعها خطوة خطوة، تبدأ بالغُسل للجسد، تعمدت ألا أحضر حتى يظل بالنسبة لى وجه أمى هو وجه أمى الذى شاهدته فى العناية المركزة، بعدها انتقلنا للجامع للصلاة ووجدت أمى فى النعش يحوطها كفن أبيض، كان قلبى معها داخل النعش، حملتها مع آخرين، لا أعرف أغلبهم ولكنهم جاءوا للمشاركة، ذهبنا للمقابر، كل شىء كان معدا، القبر مفتوح، لم أنزل معها، شعرت بأن من يوارى التراب ليست هى من عشت معها العمر كله، كانوا يرددون فى تلك اللحظات أدعية، بينما أنا كنت أحتفظ بأمى بعيدا عنهم، فمن أعرفها لم تدفن تحت الأرض.
آخر خبر أسعدها هو حصولى على جائزة أحسن ناقد فنى من مجلة «دير جيست» لهذا العام، وقلت لها سأهدى لك الجائزة وعندما اشتد بها المرض فكرت أن أعتذر، إلا أننى قررت أن أذهب وأفى لها بالوعد، وطلبت من مقدمة الحفل، الصديقة بوسى شلبى، أن ألقى بكلمة وأهديت جائزتى إلى أروع سيدة عرفتها عائشة حسين رفعت، وللمفارقة أن روحها كانت تصعد إلى بارئها فى نفس اللحظة. نعم أمى تعيش معى ولكن المشكلة أن رصيدى الضخم من قبلات أمى الذى أخذته منها وهى ترقد فى العناية المركزة قد نفد!!
نقلاً عن “المصري اليوم”