لم يعجبني يوما إسلام البحيري، لم تعجبني طريقته، ولا تلاعبه بالحقائق، ضف على ذلك عدم قدرته على السيطرة على أعصابه.. وبالطبع لا يعجبني كإعلامي، ولا استطيع أن أتعامل معه كباحث أيضا. لكني كنت شديد السعادة بوجوده على الساحة، أتابع كل حلقاته بتركيز شديد، وربما شاهدت بعضها مرتين.
أسعدتني حالة الجدل التي تسبب بها ما قدمه البحيري في حلقاته، كما أسعدني دفعه لآلاف المسلميين بعد كل حلقة لكي يبحثوا عن قصة أو فتوى ما، أو يتأكدون من صحة حديث معين. حالة صحية من الجدل والنقاش لم نشهدها من قبل، فلأول مرة في تاريخ هذه الأمة يقرر بعض من العامة أن يكون لهم رأي وموقف بعيدا عن المشايخ أو الأئمة. لأول مرة نرى من يحاول فهم وتفسير القرآن وهو لم يحفظ يوما بعضا من أياته، ولأول مرة نرى من تبحث عن صحة حديث وهي لا تجيد حتى الكتابة بعربية سليمة.
كيف تعاملت مؤسساتنا الدينية مع ذلك؟ فبعد التشكيك في نزاهة البحيري وذمته، والخوض في شخصه، قررت المؤسسة الدينية في وطننا أن تتبع نفس النهج المشين مرة أخرى، لتأخذ قضايا الفكر الديني إلى القضاء، وتحول إسلام البحيري من مجرد أحد الداعين للتخلص من جمود الفكر الديني إلى بطل سيتضامن معه المعنيين بحرية التعبير.. إلى رمز ضد الجمود حتى لو كره البعض ذلك.
قد يظن بعض المحافظين إن البحيري هو أحد محركي ذلك التيار، ولكن حقيقة الأمر أن التيار الداعي للتجديد هو نتيجة طبيعية لهذا العصر، لحالة الجمود التي أصابت الفكر الديني منذ قرون، وإن البحيري ببساطة هو أحد أعراض ذلك الوضع. فنحن الآن نعيش عصر المعلومات والوصول المفتوح، عصر يتيح لطالب في الإعدادية أن يتفوق على شيخ يحمل درجة الدكتوراة في العلوم الشرعية في البحث داخل المراجع الإسلامية المتوفرة بكثرة على شبكة الإنترنت. عصر تسجل فيه سقطات بعض العلماء على يوتيوب، وتوثق فيه مواقفهم المتناقضة مهما برروها. عصر يرى البعض فيه أن تجديد الخطاب الديني ليس ضروريا لمواجهة انتشار الإلحاد من ناحية والتطرف من الناحية الأخرى، بل صار ضروريا للحفاظ على الدين نفسه.
ولكن كما عودتنا دولة الموظفين خلال العامين الماضيين، نجدها تتعامل مع القضية بأكثر الطرق بعدا عن المنطق والرشد؛ لتلجأ للمنع والحبس، كما لو كان منع البرنامج وحبس البحيري، سيعيد كل شئ لطبيعته، سيجعل دعاة الأزهر يواكبون العصر، وسيقصي المتطرفين عن منابرهم، وربما يحل أيضا أزمة سد النهضة، ويلقي كل ميكروفونات الجزيرة على الأرض.
إن تلك الطريقة البالية في التعامل مع القضايا، تجبرنا على التساؤل؛ هل هناك فعلا من يدير هذه الدولة، أما إنها تعمل بالدفع الذاتي؟! هل سيحقق حبس إسلام البحيري هدفا أو غاية معينة لا يعلمها جموع المواطنين، أم إن الإدارة الحالية تشاهد ذلك يحدث مثلنا بالظبط؟ لسبب ما أحب أن أعتقد، إن المسؤول عن حبس إسلام، هو المسؤول عن حل اتحادات الطلبة بالجامعات، وهو المسؤول أيضا عن غلق مسرح روابط ومن قبله مسرح الجنينة، وربما يكون نفس الشخص الذي ألغى تصريح محاضرة عصام حجي، وقرر القبض على أصحاب دار ميريت للنشر. فمن الصعب أن أصدق أن داخل دولتنا التي يصرح رأسها دائما بأنه يهدف للإصلاح والتطوير، أكثر من موظف واحد يتمتع بهذا الكم المهول من قصر النظر والحماقة!
أنظر لنتائج كل قرار على حدى، ستجد أن في كل مرة تتدخل الدولة لإصلاح الأمر تكون نتائجه أسوأ بكثير من لو تركته كما هو. أذهب الآن إلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ستجد أن البحيري أصبح حديث الجميع، وإن الحكم الذي صدر عليه لم يضره بقدر ما نال من خصومه. أمر متوقع لا يحتاج لذكاء أو فطنة لتوقعه، لكن يبدو مع الأسف أن القائمين على الدولة الآن مجموعة من الموظفين الذين لا يعرفون سوى “تمام يا فندم”، هؤلاء الذين يذكرونني دائما بفوزية في مسرحية سك على بناتك، التي كادت أن تنهي زيجتها قبل أن تبدأ حفاظا على تعليمات الأب، رغم إن الأب نفسه مثل أي شخص عاقل، يرى أن الموقف يستوجب أن “تسيبه يمسكها”.
لا يقلقني حبس إسلام أو إلغاء الانتخابات وغلق المسارح والقبض على الناشرين، بقدر ما يقلقني أن داخل الدولة من يرى أن ذلك هو الحل! فإسلام سيخرج بطلا، وسيجمع في خلال مدة حبسه ربما أضعاف ما يمتلكه الآن من متاعبين ومؤيدين، كما سيخرج علينا أخرون يملؤون مكانه، وربما يستطيع بعضهم توصيل رسالته بطريقة أفضل تستطيع أن تكسب شعبية أوسع. أما انتخابات اتحادات الطلاب، فستعاد مرة أخرى وستفوز قائمة الأمن، لتصنع الدولة المزيد من الكيانات الديكورية، مثل مجلس الشعب.. لا تمثل أحدا.
نهاية القول، من الواضح أن دولة الموظفين ستظل تدفع الشباب إلى المزيد من الاحتقان والرفض والغضب، حتى تفهم أنهم لا يحتاجون إلى برنامج إعداد قيادات شابة، بقدر ما يحتاجون من القيادات الحالية أن يرفعوا أيديهم عنهم.
نقلًا عن “جريدة التحرير”