حدث هذا في عام 1996 كانت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، تستعد لزيارة مصر، ضمن جولة لعدد من دول المنطقة. ودعينا ـ المراسلين الأجانب في واشنطن ـ لحضور مؤتمر صحفي تشرح فيه أولبرايت ـ عقب فترة قصيرة من تعيينها وزيرة للخارجية، الخطوط الرئيسية لسياستها الخارجية في الشرق الأوسط، وبرنامج الزيارة.
وتكلمت أولبرايت وقالت الكثير، لكن المفاجأة لنا كمراسلين، أنها لم تقل شيئا. فكلامها يعطي المعني ونقيضه، بطريقة تجعل من يسمعها ـ ومن سيقرأ كلامها في الصحف بعد ذلك لا يستطيع أن يضع يده علي ما تقصده بالضبط، وما تنويه في زيارتها.
وما فعلته أولبرايت بكلمتها، يضع المراسل في وضع، يكون فيه مثل ناقل الرسائل، لو أنه اكتفي بنقل ما قيل كما هو. وتكون النتيجة، اضافة القارئ إلي طابور الحائرين من المراسلين في واشنطن.
وإذا تصرف علي هذا النحو، فما جدوي أن توفده صحيفته إلي دولة كأمريكا، تصنع فيها سياسات تؤثر علي العالم كله. فما بالك والسياسة الخارجية في أمريكا، لها واجهة مرئية لنا ولغيرنا، من خلال دبلوماسية وزارة الخارجية، وواجهة أخري مستترة، تديرها من ورائها وفي الخفاء، أجهزة مخابراتها.
هنا يتحدد دور المراسل في السعي لحل التناقض، أو حتي الغموض، فيما يعلن من سياسات خارجية، بالبحث عن مفاتيح، يمكنه أن يصل إليها لو أراد.
البداية كانت حمدي فؤاد
إن دور مراسل الأهرام المقيم في واشنطن، قد بدأه الزميل المتميز حمدي فؤاد، عندما كلفه الأهرام، بإقامة مكتب للجريدة في العاصمة الأمريكية، باعتباره واحدا من أبرز القامات الصحفية في الأهرام، وأكثرهم طوافا بدول العالم علي اختلافها، ولعلاقاته الوثيقة بعدد من الرؤساء ووزراء الخارجية الأجانب، وخاصة في الولايات المتحدة، وليكون مراسلا للأهرام في واشنطن، وإلي جانبها الأمم المتحدة في نيويورك.
وجاء اختياري لأحل محله الشاغر في واشنطن، عقب وفاته، وفي مكتب الأهرام، الذي وفرته مؤسسة الأهرام، في مبني الصحافة القومي، الذي توجد به مكاتب المراسلين من الأجانب، ومن الأمريكيين، الذين توجد صحفهم في الولايات الأمريكية البعيدة عن العاصمة. وفي هذا المبني تتاح للمراسلين خدمات اخبارية تسهل لهم عملهم، إلي جانب وجود نادي الصحافة القومي، في الطابق الأخير من المبني، والذي توجد به قاعة كبري للمؤتمرات الصحفية، يأتي إليها بشكل منتظم رؤساء دول، ووزراء خارجية، زائرون للولايات المتحدة، ويعقدون مؤتمرات صحفية يتحدثون فيها للمراسلين، الذين توجد مكاتبهم في نفس المبني.
في بداية عملنا كان من أهم مصادر معلوماتنا، هي المؤتمرات الصحفية الثلاثة التي تعقد يوميا في وزارة الخارجية، والبيت الأبيض، ووزارة الدفاع، في الفترة من الثانية عشرة ظهرا، وحتي الثالثة بعد الظهر.
بيان مراوغ لأولبرايت قبل زيارتها لمصر
ولو عدنا إلي واقعة أولبرايت، الغامضة، وربما المراوغة، يكون السؤال: أين هي مفاتيح حل اللغز؟
إن الطريق إلي هذه المفاتيح، كان يبدأ بإقامة اتصالات منتظمة مع شخصيات لديها علم بما يجري في البيت الأبيض، ووزارة الخارجية علي وجه الخصوص، والالتقاء معها أو الاتصال بها من حين لآخر، للحوار حول ما يحتاج إلي تفسير قد يلقي ضوءا كاشفا علي مسارات سياسة أمريكا الخارجية، خاصة تجاه الشرق الأوسط، ومصر بصفة خاصة بناء علي اقتناع بأن دور المراسل في هذه الدولة، لا يكون مجرد ناقل للأخبار لصحيفته فحسب، بل يكون أيضا واعيا لأهمية نقله الصورة كاملة لتكون واضحة لبلده.
ومن الشخصيات التي اعتدت زيارتها في مراكز نشاطها السياسي: برنت سكوكرفت الذي كان مستشارا للأمن القومي لاثنين من الرؤساء، وله آراء منشورة في الصحف الأمريكية، تحمل تعاطفا مع القضايا العربية وأيضا جيمس بيكر وزير الخارجية في إدارة بوش (الأب)، وجيفري كمب الذي كان من قبل عضوا بمجلس الأمن القومي، في البيت الأبيض،وشبلى تلحمي، وكان وقتها مديرا لبرنامج الشرق الأوسط، بمعهد بروكنجز الشهير في واشنطن، وغيرهم من الخبراء، للوصول إلي ما كان يدور في عقل أولبرايت، وأعلنته لنا مغلفا بالغموض. ثم اتبعت نفس الطريقة عندما تصادفنا أحداث مشابهة.
وأرسلت لـ «الأهرام» رسالة عنوانها «في انتظار أولبرايت»، أوردت فيها نص كلمتها دون تغيير، وألحقت بها في نفس الرسالة، صورة واضحة بلا أي لبس، لما كانت أولبرايت تقصده، ولم تفصح عنه.
الأخبار المصنوعة
وأثناء تغطيتي للأحداث ما بين البيت الأبيض وغيره من المؤسسات، صادفتني وقائع مشابهة، كنت أحاول الوصول إلي الجانب الخفي منها بنفس الطريقة. وهذا يتطلب ألا يكون المراسل حبيس مكتبه، بل يصنع لنفسه برنامجه للتحرك اليومي، وحضور منتديات مناقشة السياسة الخارجية، والتي يقال فيها الكثير، من خلال عرض وجهات نظر، قد تتعارض مع بعضها، وتتيح للمراسل الاطلاع علي معلومات قد لا يعلنها المتحدثون الرسميون. لأن غياب المراسل عن موقع الحدث، يلقي عبء نقل الأخبار، علي وكالات الأنباء.
صحيح أن كثيرا من أداء هذه الوكالات يتسم بالثقة والمصداقية، إلا أن هذا لا يمنع بعضها من اذاعة أخبار تأتينا مصنوعة بمهارة ومهنية.
وأذكر أثناء حضوري مؤتمرا صحفيا بالبيت الأبيض، أن المتحدث الصحفي كان يشرح سياسة إسرائيل من جهود إدارة كلينتون في عملية السلام، وأن حكومة نتنياهو تتخذ مواقف سلبية من هذه الجهود. وراح مراسل احدي الوكالات يسأله ويكرر السؤال، ويرد المتحدث بنفس الاجابة. فأعاد المراسل سؤاله بقوله: وهل لم تكن لإسرائيل أي نقاط ايجابية. فرد عليه بذكر نقطة واحدة.
وتعمدت في اليوم التالي أن أطلع في الصحف الأمريكية علي معالجة هذا المراسل بالذات لما جري بالأمس، فوجدته يبدأ قصته بالنقطة الايجابية الوحيدة، وبإيحاء بأنها لب الموقف الاسرائيلي، ثم جعل المواقف السلبية في ذيل تغطيته للمؤتمر الصحفي وبجمل مختصرة.
(مونيكا لوينسكي وخطة الموساد للايقاع بكلينتون)
نفس واقعة تغييب الحقيقة، حدثت عندما ذاعت فضيحة الرئيس كلينتون مع مونيكا لوينسكي. وراح الجمهوريون في الكونجرس يشعلونها حريقا اعلاميا، وصل إلي حد تهديدهم بتقديم كلينتون للمحاكمة. ونجحوا في شل قدرته علي اتخاذ أي قرار كان يعده، في سياسته الخارجية، في ولايته الثانية.
فأين كانت الصورة الحقيقية والخفية؟
كنا قد أبلغنا كنراسلين أجانب، بأن كلينتون سوف يعلن بشكل حاسم، خطته لتحقيق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وذلك أثناء القمة الثلاثية التي سيعقدها مع نتنياهو وياسر عرفات، بعد أيام قليلة.
وفوجئنا ونحن نتابع بداية القمة، داخل المكتب البيضاوي، قبل بدء المباحثات الثلاثية ـ والتي نقلتها شبكات التليفزيون في الولايات المتحدة ـ بأحد الصحفيين الأمريكيين يوجه سؤالا لكلينتون، عما إذا كان يعرف فتاة تدعي مونيكا لوينسكي، ولوحظ أن كلينتون اضطرب، وإكفهر وجهه، بينما لاحت ابتسامة زائغة، علي وجه نتنياهو، أما عرفات فكانت ملامحه محايدة، لأنه لا يعرف مغزي السؤال.
ونفي كلينتون معرفته بها. ومن هذا اليوم تفجرت في وجه الرئيس الأمريكي فضيحة علاقته بمونيكا.
بدت الواقعة مريبة، خاصة أنها جاءت في نفس التوقيت الذي كان كلينتون سيعلن فيه خطته للسلام. لكن الخطة طويت في زوايا النسيان، ولم يعلنها كلينتون علي الاطلاق.
كان دوري كمراسل أن أبحث عما خفي في القضية، خاصة ونحن نعرف أن مونيكا يهودية. قبل ذلك كنت قد أجريت حوارات مع قادة اثنين من المنظمات اليهودية الأمريكية، التي لها فروع في أنحاء الولايات المتحدة، والتي ترفض سياسة نتنياهو، وتنتقده في بيانات صحفية تصدر عنها باستمرار.
وكانت المنظمتان تفسران موقفهما، باقتناع كل منهما بأن سياسة نتنياهو ستسبب كارثة لإسرائيل وأنهم مهتمون بتنبيه يهود إسرائيل، إلي خطورة سياسات نتنياهو عليهم.
وقمت بزيارة رئيسي المنظمتين في واشنطن، ومن خلال حواراتي مع كل منهما علي انفراد، علمت أن والد مونيكا، من أنصار الليكود في أمريكا، وأن مونيكا تذهب سنويا في العطلة الصيفية إلي إسرائيل، لحضور تدريبات في معسكرات للموساد، لشباب يهود يأتون بهم من دول في العالم. وأن الموساد بعد دراسته لنقطة ضعف كلينتون في علاقاته النسائية، قامت بتأهيل مونيكا للاقتراب من الرئيس الأمريكي، وإغرائه بإقامة علاقة معه.
وهي معلومات تظهر وجها من أساليب إسرائيل في تشويه سمعة رئيس الدولة الحاضنة لإسرائيل.
داخل مصانع السياسة الخارجية
لا يستطيع المراسل أن يكون بعيدا عن ندوات مراكز البحوث Think Tanhs والتي كنت أسميها مصانع السياسة الخارجية. فالابتعاد عنها يفقد صحيفتك، جانبا هاما مكملا للخبر. وفي أمريكا يصفون هذه المراكز، بأن بينها وبين البيت الأبيض، بابا دوارا. وسبب هذه التسمية أن معظم أعضائها من المسئولين السابقين ـ من مستشاري الأمن القومي، ووزراء الخارجية، والدفاع، وغيرهم ممن شغلوا أعلي المناصب، بالاضافة إلي خبراء متخصصين في السياسة الخارجية.
وحين تنتهي فترة الرئيس، ويأتي رئيس جديد، فهو يختار من هؤلاء نوابه ووزراءه، ومساعديه. ويعود الذين كانوا مع الرئيس المنتهية ولايته إلي هذه المراكز.
ومن أول يوم لبدء عملي مديرا لمكتب الأهرام، أرسلت إلي هذه المراكز ـ وعددها في واشنطن يقترب من المائة ـ رسائل أبلغهم فيها انني مراسل صحيفة الأهرام، ويهمني حضور أوجه نشاطكم، وأن تصلني بانتظام، برامج ومواعيد الندوات التي تعقدونها.
وما كان يجري في هذه الندوات، ليس فقط مناقشات، وأسئلة من الحضور والرد عليها من المتحدثين، بل أحيانا تجري مناظرات بين وجهات نظر مختلفة وربما متعارضة. ومنهم من كان ينتقد سياسات الحكومة ويفندها بمعلومات مؤكدة لديه. وبذلك يتحصل المراسل علي معلومات عما يدور في خلفية صناعة السياسة الخارجية.
وكنت قد حضرت في عام 1998، مناظرة بين قيادات من الجناح المعتدل في الحزب الجمهوري، وبين أقطاب حركة المحافظين الجدد، والذين قدرت نسبتهم بـ20% من أعضاء هذا الحزب. وكل منهم يعبر عن آرائه، معارضا للآخر ورافضا له. يومها عرض المحافظون الجدد، ـ المتحالفون مع الليكود في إسرائيل ـ برنامجهم للسياسة الخارجية، الذي سيطبقونه لو أنهم وصلوا للحكم، وهو ما طبقوه حرفيا عندما أتي بهم جورج بوش أعضاء في حكومته عام 2001، وضمنوه لاستراتيجيته الجديدة للسياسة الخارجية التي أعلنها البيت الأبيض في سبتمبر 2002
الوجود في موقع الأحداث وخطاب عرفات بالأمم المتحدة
اعتدت علي مغادرة واشنطن إلي نيويورك مع افتتاح دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأقضي هناك ما بين عشرة أيام واسبوعين، لأنها فرصة كبيرة لمعايشة الأحداث عن قرب، ومتابعة نشاط الوفد المصري برئاسة السيد عمرو موسي، وزير الخارجية، واللقاء معه يوميا بقاعة الوفود بمبني الأمم المتحدة.
وحدث في يوم كان محددا لالقاء الزعيم ياسر عرفات، كلمة فلسطين أمام الجمعية العامة. وقبلها بيوم دعا كلينتون عرفات لزيارته في البيت الأبيض. وكان قد علم بمضمون خطابه وأنه يتضمن فقرة عن الدولة الفلسطينية، ورجاه كلينتون تأجيل هذه الفقرة. ودعا عرفات صباح اليوم التالي إلي نيويورك. وكانت كلمته المطبوعة، قد وصلت إلي وكالات الأنباء.
في هذا اليوم، تحدثت مع السيد عمرو موسي، الذي نبهني إلي أن أتابع خطاب عرفات أثناء القائه، دون النظر إلي النص المكتوب. وجلست في قاعة الجمعية العامة، ورحت أكتب في مفكرتي ما يقوله عرفات كلمة كلمة، إلي أن وجدته يقرأ الفقرة، التي لم ترد في نص الخطاب الموزع. وكان واضحا أنها الفقرة التي أراد منه البيت الأبيض تأجيل اعلانها،
وصلت النسخة الأولية إلي الصحف عن طريق وكالات الأنباء، وكان طبيعيا أن يكون تركيزي علي الفقرة المضافة للخطاب، والتي كانت العنوان الرئيسي للجريدة.
هناك أدوار أخري للمراسل، فمثلا لفت نظري مقال في مجلة «نيويوركر»، واسعة الانتشار، عن أحداث تاريخية كانت قد جرت في مصر.
وجدت كلاما يخالف ما هو معروف تاريخيا، بل ويحرفه ويشوهه. وفي الحال اتصلت تليفونيا بالمجلة، وتحدثت إلي كاتب المقال، وشرحت له كل ما هو ثابت ومسجل عن هذه الوقائع، وكان رده أن تلك معلومات أرسلت إليه من منظمة دراسات في الولايات المتحدة. وأنه وجدها تثير اهتمام القارئ، ثم طلب مني أن أرسل له نصا مكتوبا يحوي كل ما ذكرته له تليفونيا. وفعلا أرسلت له ما طلبه. وكان الرجل أمينا لأنه نشر الرد كاملا.
جميع وزراء الخارجية علي قيد الحياة يشرحون التغيير القادم في سياسة أمريكا كان مما يسهل مهمتي كمراسل لـ »الأهرام«، أن الصحيفة في القاهرة، لم تتردد عن دعم هذه الجهود، تفهما منها لدور مراسلها في واشنطن.
وعلي سبيل المثال فقد تلقيت دعوة من مركز جيمس بيكر للسياسات العامة، لحضور مؤتمر في مدينة هيوستن بولاية تكساس، يحضره جميع وزراء خارجية أمريكا، الذين علي قيد الحياة، ليناقشوا سياسة بلادهم الخارجية في القرن الحادى والعشرين. ووفرت الصحيفة في مصر، امكانيات السفر بالطائرة، والاقامة في هيوستن. وكان كل من الوزراء المشاركين يدلي برأيه في التغيير المستقبلي لسياستهم الخارجية، في العالم، وفي منطقتنا العربية وهو ما بعثت بأهم ما دار فيه إلي الأهرام.
إن الكثير يمكن أن يقال عن دور مراسل الأهرام في أمريكا، علي وجه الخصوص. وهو أكثر ما ورد في هذا المقال. وكما ذكرت فليس كل ما يقال، لابد أن يؤخذ قضية مسلما بها. فما نراه ونسمعه في العلن، تتستر وراءه خلفية غير ظاهرة، بعيدة عن العيون والآذان، ولأن ادارة السياسة الخارجية في أمريكا، لها واجهتان، احداهما التي تمثلها الدبلوماسية العلنية، والأخري ما نسميه الباب الخلفي للسياسة الخارجية، وإن كان الكثير مما يحدث فيه، تتردد أنباؤه من حين لآخر. والذين يعرفون خباياه، هم من في يدهم مفاتيحه، ويعرفون عن قرب، ما يدور في العالم الخفي للسياسة الخارجية الأمريكية.
نقلاً عن جريدة الأهرام