عندما تطرح على متابعيك سؤالاً من قبيل: لماذا تسعى الولايات المتحدة لتهريب قادة داعش سراً إلى خارج الأنبار؟ أيمكنك أن تلوم أحدهم إن وجدته يعلق على سؤالك تعليقاً من هذا النوع: «لأنها لا تستطيع تهريبهم علناً» مصحوباً ربما بسيل من الـ”هاهات” أو بوجه ساخر من الوجوه إياها؟ الواقع أنه لا يحق لك أن تلومَّن إلا نفسك فى هذه الحالة؛ لأن صياغتك غير محكمة فتُغرِى بالقلش عليها.
القلش بات أسلوباً للتعليق متفشٍّ فى كلامنا، لدرجة أننى سأود أن أعود مراتٍ لاستكشافه هنا، لكن الآن وفى هذه التدوينة سنهتم به باعتباره طريقة معظم المدونين والمتابعين على الوِب للتعليق. وفى رأيى أن الأمر يغدو ظاهرة إلى حد أن المواقع الإخبارية، كما أنها تحرص على تحصين نفسها ضد القرصنة وفيروسات الشبكة، فعليها أيضاً أن تشرع فى وقاية نفسها من القلش بسد ثغرات الصياغة عندها، والتى تفتح نفس المتابعين للقلش عليها. ولنبدأ بالمثال الذى استهللت به، وهو من حساب روسيا اليوم على تويتر. فطبعاً السؤال عندما يصدر عن وسيلة إعلامية رسمية روسية مستهدفاً الولايات المتحدة، فإن المتابع العادى للأحداث لا يحتاج إلى دهاء الثعالب ليدرك أنه سؤال مغرض. والسؤال من تلقائه يفضح الغرض فى نفس صاحبه، وذلك من إلحاحه عليه بطريقة مبالغ فيها أفقدت السؤال دلالته، وجعلت منه هدفاً مستباحاً للقلش. فلفظ “سراً” لا يفيد جديداً بعد “تهريب”؛ لأن التهريب بالطبيعة يشتمل على معنى السرية ضمناً. فلمَ الإلحاح على فكرة السرية؟! المشكلة أن هذا الإلحاح، بدل أن يُصاغ كتأكيد على المعنى، أو بالأحرى: الغرض الذى فى النفس، بدلاً من ذلك أفرغ السؤال من مضمونه، فصار التركيز على “سراً” وليس على “السعى” كما هو مفترض.
خبر موقع روسيا اليوم مثال على الأخبار التى قد تستفز ملكة القلش لدى المتابع، لكن الواقع المصرى فيه من الأمثلة الكفاية. ولعلنا نسترجع كيف استقبل جمهور القلّاشين المصريين الأخبار والتصريحات التى وظّفت تعبيرات مفرغة من المضمون من قبيل: الطرف الثالث، الأيدى والأصابع الخفية، مصر لن تركع.. وحتى إن سلِمت بعض الأخبار من الإكليشيهات المبتذلة، فإنها قد لا تسلَم من ركاكات الصياغة المستفزة للقلش كما فى صياغة روسيا اليوم للسؤال السابق.
وإذا أردنا محاولة تأصيل كلمة ’قلش‘ لغوياً، فإن المعاجم تخبرنا أنه لا يوجد لفظ عربى تأتى فيه الشين بعد اللام، فالشينات تأتى كلها قبل اللامات فى الكلمات العربية، وعليه فالكلمة ليس عربية الأصل. لكن فى تاج العروس إضافة تقول إنهم ‒العامّة ربما‒ يقولون ’القلّاش‘ «ويعنون به الملاعب الذى لا يملِك شيئاً أو لا يَثبُت على شىء واحد.» والمعنى الأول، أى: الذى لا يملك شيئاً، ربما يفسر لماذا يُطلق هواة تربية الطيور على مرحلة تغييرها لريشها اسم ’القلش‘. أما المعنى الآخر، أى عدم الثبات على شىء، فربما يكون هذا هو أصل القلش الذى نمارسه فى الكلام. إذ أن القلش غالباً ما يرمى إلى فضح التناقض أو المفارقة الكامنة فى الكلام المستهدَف بالقلشة، غالباً نتيجة لعدم اتساق المتكلم مع ذاته أو ’عدم الثبات‘ بين ما يقوله وما يبطنه، أو لانحراف مغزى كلامه ‒إذا أخذناه بحرفيته‒ عن القصد الأصلى له (مثلما أن الكرة تقلش من على قدم اللاعب) هذا القلش أو الانحراف للمعنى على لسان المتكلم، يقابله ’القلّاش‘ بفهمٍ مضمَر لقصده الأصلى، وبالتواطؤ على المتكلم لكشف قصوره عن التعبير وربما كذلك فضح نفاقه اللغوى.
ومع أن القلش ظاهرة لغوية ليست قاصرة على مجتمعنا، فالقلش يملأ الدنيا فى أوربا وأمريكا أيضاً، والأطفال هناك يتعلمونه من نعومة أظافرهم فى لعبة شفهية يسمونها “طق! طق! من بالباب” (تعريب على قد الحال لـ knock-knock who?) إلا أن اللغة العربية لها أساليبها التى ‒مثل القلش‒ تعتمد على التلاعب بالألفاظ وبالمعانى، كالجناس والتورية مثلاً. وهناك أبيات لشعراء فطاحل لا تقوم على شىء إلا التلاعب اللفظى والاستعراض اللغوى، كألاعيب المتنبى والمعرى. لذا فإننا لا نكون متساهلين أو متجاوزين إذا ما اعترفنا بالقلش واحداً من أساليب الكلام للغة العربية. ثم لِمَ نذهب بعيداً! فتراث الفصاحة العربية نفسها تظهر فيه أمثلة تقوم على القلش الصريح بلا مواربة. ومن يعرف منكم قصة هشام بن عمرو التى تُروَى كنادرة من نوادر العرب، سيراها من منظورنا الآن على أنها سلسلة قلشات غير رحيمة.
ومثلما أن هذه الأساليب يكون لها أغراض بلاغية عديدة، من أول التوكيد والتشويق والتمنى إلى التحقير والاستنكار والتعجيز، فإن القلش أيضاً يكون له غرضه البلاغى. طبعاً نحن هنا نتكلم عن ’القلّاش البليغ‘. فالقلش مثل كل الأساليب اللغوية، التى لا تكون بليغة فى حد ذاتها، وإنما بلاغتها أثر من آثار الشخصية الفنية للمتكلم على كلامه. لذا لا يجب أبداً أن نخلط بين القلش البليغ وبين قلش الاستخفاف أو الاستظراف أو نكات المساطيل؛ هذا الصنف من القلش يعتبره جمهور القلاشين غير هادف أو غير ’ملعوب‘ ويسمونه بـ’القلش الرخيص‘. فكما أنه فى اللعب: التصويبة التى تقلش تنحرف عن المرمى، كذلك فى الكلام: القلشة غير الملعوبة لا تصيب الهدف وتجلب على صاحبها سخط الجمهور.
وانتبهوا! فالقلش سلاح ذو حدّين: أحدهما إيجابى؛ وهو الذى تناولناه فى هذه التدوينة، حيث يبدو القلش وسيلة مقاومة لغوية للإكليشيهية المنتشرة فى حياتنا اليومية، إلا إن ’استرخاصه‘ يؤدى إلى نفس الأثر الذى ينجم عن الإكليشيهات. وهذا هو الحد الآخر السلبى لسلاح القلش، حين يبتذل القيمة الجمالية المعنوية للأشياء.. لكنها قصة أخرى.