كعادتي في عيدي الميلاد والقيامة المجيدين من كل عام، أجلس باهتاً أمام القنوات المصرية لأتسائل عن المحتوى الذي يمكن أن يقدمه الإعلام المصري للمواطنين الأقباط في أعيادهم بخلاف التهاني الفاترة التي تنطلق من أفواه المذيعين شفقة بالأقباط ومنة عليهم إلى جوار قداسات الأعياد التي تجري في ثوب وطني رسمي، في ظل التحريم الإعلامي الواقع على عرض أو إنتاج الفنون القبطية لأنها تنتسب إلى الديانة المسيحية، مع العلم أن الأقباط يساهمون بشكل مباشر في تمويل القنوات المصرية الرسمية من خلال دفع الضرائب كمواطنين مصريين كاملي الأهلية، لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات.
الإعلام المصري الرسمي وغير الرسمي يفتقر إلى أي محتوى تراثي ديني، فني أو موسيقي يخص الأعياد والمناسبات القبطية في حين أن هذا الإعلام عينه يمتلك الكثير من المواد الإعلامية التي تناسب الأعياد والمناسبات الإسلامية من مسلسلات وأفلام وأغاني، بالرغم من أن الحضارة القبطية تسبق الحضارة الإسلامية بحوالي 600 عام، فإذا لم نأخذ عرض التراث القبطي إعلامياً على محمل المساواة والمواطنة يمكننا على الأقل أن نأخذه على محمل التراث المصري الأصيل الواجب حفظه من الضياع، والتباهي به أمام دول العالم المتحضر بدلاً من العمل على إخفاءه بطريقة مرضية مخجلة.
كمسيحي، أشاهد المحتوى الإسلامي على القنوات المصرية بلا أية ضغينة، وإذا شعرت بالتنافى مع معتقدي المسيحي بكل سهولة أغير القناة، بل في بعض الأحيان أتركها لأستزيد معرفة عن الآخر الذي يشاركني وطني ولغتي وحياتي اليومية، ليجري نقاشاً داخلياً بيني وبين المادة المعروضة يفضي دائماً إلى زيادة الثقة بقناعاتي وزيادة معرفتي بالآخر وقبوله لأن جهلي به يبتعد أكثر فأكثر، هنا أسأل: ما هو سبب الامتناع عن إنتاج أو عرض المواد المسيحية بالقنوات المصرية؟
يظنون أن منع إنتاج أو عرض المواد المسيحية يحفظ بسطاء المسلمين من الانسياق لها، مثلما يظنون أن تصدير المواد الإسلامية لعامة المسيحيين يجعلهم يغيرون وجهتهم الدينية، لكن تبقى الحقيقة سيدة الواقع وهي أن أحداً لن يغير معتقداته الدينية لمجرد رؤيته أو استماعه لدين آخر مخالف لمعتقده، لأن دينه محفور في جذوره النفسية والعقلية ما يصعب معه التسليم بمعتقدات أخرى تخالفه، العكس هو الذي يحدث، فعندما تمنع أحداً عن معرفة شئ يتمادى في البحث عنه بإرادة قوية وسعي دؤوب حتى يصل إليه ولو بطرق سرية لا يدركها أحد.
هناك اتجاه آخر يرى أن إسلام الدولة المصرية يجعل من إعلامها إسلامياً لا يليق به عرض المواد المسيحية المخالفة للدين الإسلامي، فعلى الرغم من عدم قبولي لفكرة تديين الإعلام المصري منطقياً ومدنياً، إلا أن القرآن الكريم نفسه يحوي اقتباسات يهودية ومسيحية أعتقد أن مسلمين كثيرين لا يعرفون منبعها، أقصد أن الدين الإسلامي قام أول ما قام على التعايش مع الأديان الإبراهيمية التي سبقته، بالإضافة إلى أن مفهوم الدولة الديمقراطية التي تقبل كل مواطنيها بمختلف طوائفهم الدينية والمذهبية لا يتناسب مع الصبغة الدينية التوحدية للإعلام وإلا فنحن نجني على أنفسنا بالتفكك والتشرذم والانقسام كمواطنين مختلفة أدياننا، فالمفترض في إعلام الدولة المدنية الديمقراطية احتواء كل التوجهات والأفكار الممثلة للمواطنين بشفافية لإشباعهم وإرساء مبدأ قبول الآخر.
من الضروري أن نعرف أن المنع الإعلامي لإنتاج أو عرض المواد المسيحية لا يؤدي إلا إلى اتساع الهوة بين المسلمين والمسيحيين، ومنح الفرص الذهبية للمتشددين والمدعين والمؤلفين لبث الفرقة والتعصب والتكفير والادعاء على الآخر الممنوع من الرد على الافتراءات الموجهة ضده، فليس الحل في المنع والتعتيم إنما الحل الحقيقي في التثقيف عن الآخر، وحرية المعرفة التي تزيد الإنسان قوة وصلابة واتساع قلب، فليس من الخطير أن يُنتج تليفزيون الدولة ترنيمة أو فيلماً قبطياً للعرض على القنوات الفضائية المصرية في أعياد الأقباط، وليس من المحرّم عرض برامج لشرح المعتقدات والطقوس المسيحية المصرية في المناسبات القبطية المختلفة، بدلاً من التهاني الروتينية الخاوية الحاملة بعض المشاعر الطيبة التي سرعان ما تذوب في بخار الماضي من دون رجعة.