“أكاد أسمع صليل السيوف وصهيل الجياد، وأرى غبار المعركة يسد الأفق ويحجب ضي الشمس”، كان ذلك أول ما جال بخاطري بعدما أعلنت المملكة العربية السعودية قطع العلاقات مع إيران وطرد سفيرها من الرياض، وسحب الأخيرة لبعثتها الدبلوماسية من العاصمة طهران، علاوة على إعلان السعودية- لاحقا- وقف خطوط الملاحة الجوية مع إيران وحظر سفر مواطنيها إلى هناك، فضلا عن قطع العلاقات التجارية التي لم تكن ذات ثقل يوما ما.
وقد تبارت وسائل الإعلام بمختلف توجهاتها في رصد تبعات الخطوة التي من المؤكد أنها تصعيدية، إلى درجة دفعت كبرى العواصم الغربية وكذلك الأمم المتحدة إلى الإعراب عن “عميق القلق” إزاء القرار السعودي، والذي ما لبث أن لحقت به قرارات مماثلة من البحرين والسودان، فيما اكتفت الإمارات بتخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إيران. وأهمية تسليط الضوء على التعاطي الإعلامي تكمن في أن عددا لا بأس به من وسائله بدا وكأنه يدق طبول الحرب وينفث في نيران الفتن النائمة تحت الرماد.
الأزمة الراهنة بين دولة الحرمين الشريفين ودولة الشيعة في العالم، عكست بكل قوة وعمق، حجم الخلاف المذهبي، وأن الصراع مشتعل تحت نيران الفتنة المذهبية، وقد لعبت وسائل الإعلام (المرئية والمسموعة والمقروءة) الدور الأبرز في هذه الحرب الكلامية والتلاسن بدرجاته المختلفة بين الرياض وطهران.
صنفان من الإعلام
ويمكن تقسيم التناول الإعلامي سواء العربي أو غير العربي لهذه التوترات إلى شقين؛ الأول حاول الإمساك بتلابيب الموضوعية وأهداب التعاطي غير المنحاز مع الوضع الملتهب بما لا يصب في خانة هؤلاء ولا هؤلاء، وهذا الصنف لم يتمثل سوى في عدد محدود من وسائل الإعلام، وباقي الوسائل تندرج تحت الصنف الآخر وهو الأغلب الأعم حول العالم. ورغم ذلك لم تدع هذه الوسائل المنتمية للصنف الأول الفرصة تمر دون الاستفادة منها، فألقت مزيدا من الضوء على قضايا حقوق الإنسان في البلدين، واستعانت بتعليقات الخبراء والمحللين للدفع في هذا الاتجاه، ولعل أبرز من خاض هذا المسار تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وإذاعته في نسختيهما العربية. كما أنها لجأت إلى أسلوب الإحالة، وهي طريقة متبعة في الصحافة والإعلام بشكل عام، واتضح ذلك في صورة ترجمة موسعة تربو عن الستمائة كلمة، لتقرير منشور في صحيفة “صنداي تايمز”، إذ أفرد الموقع الإلكتروني لبي بي سي العربية هذا التقرير الذي يتحدث عما إذا كان الملك السعودي الحالي قد بتسبب في “تدمير” النظام الحاكم هناك بسبب سياساته التي ينتهجها منذ صعوده لسدة الحكم هناك، وهو تقرير مليئ بالغمز واللمز والإحالات التي لا تنتهي على لسان متحدثين أو محللين.
صحيفة الشروق المصرية تنضم إلى الصنف الأول من التناول الإعلامي غير المنحاز، وإن بدت بعض المواد الإخبارية منحازة من حيث اختيار المصادر الداعمة للموقف السعودي. وكغيرها من الصحف والمواقع الاخبارية المصرية لم تغفل أحاديث السفير السعودي في القاهرة أحمد القطان خلال مقابلات أو مداخلات على الفضائيات المصرية، ونقلت ذات التصريحات التي تسابقت هذه الوسائل في بثها فورا. وإن ظلت الشروق محافظة على صياغاتها التحريرية المتوازنة والأكثر مهنية بين الصحف المصرية.
الإعلام غير العربي
الإعلام غير العربي وظف الأزمة لتسليط الضوء على معدلات الإعدامات في إيران و السعودية، لاسيما وأن هذا الحكم غير مطبق في معظم البلدان الغربية، وأبرزت حقيقة أن إيران هي الأعلى في العالم تنفيذا لأحكام الإعدام خلال السنوات الأخيرة، وكذلك السعودية التي احتلت المركز الثاني في تطبيق هذه العقوبة السالبة للحياة.
وتحولت القصص الإخبارية الرئيسية في نشرات وتقارير هذه الوسائل الإعلامية، بوجهها صوب الإقليم المشتعل في الأساس، وقد أضمرت في نفسها تلميحات وإشارات مباشرة وغير مباشرة عن مدى خطورة التصعيد وتوقعات المعلقين لديها إزاء هذا التوتر. فقد أورد تلفزيون “سي إن إن” الإخباري الأمريكي في تغطيته المركزية عن الأزمة، أن التصعيد الحاصل بين أكبر بلدين منتجين للنفط في المنطقة، قد يهدد بـ”عواقب وخيمة”، وأن التصعيد “الأحادي الجانب” من ناحية السعودية ينذر بأن “أمرا أكثر خطورة” على وشك الحدوث، وهو تلميح مبطن لتوقعات الوسيلة الإعلامية البارزة في الولايات المتحدة، بأن نهاية هذا التصعيد ستكون “مدوية”؛ حتى إن أحد محلليها أكد أن السعودية لن تخفض من حدة الحرب الكلامية، وأنها “نزعت عن يديها القفازات”، وهو تعبير يشير إلى الاستعداد لمزيد من الإيلام للخصم، عبر الضرب بقبضة اليد مباشرة. فيما تحدث محلل أخر إلى احتمالية نشوب حرب عسكرية مباشرة بين الطرفين، لكن محلل ثالث أكد أن الصراع بين البلدين هو معركة نفوذ وهيمنة إقليمية.
وبالانتقال إلى محطة “إيه بي سي نيوز” الأمريكية، فقد سلطت الضوء على “حروب الوكالة” بين السعودية وإيران، وتداعيات ذلك على محاربة تنظيم “داعش” من جهة، والنتائج الخطيرة على الغرب من جهة ثانية. وفسرت المحطة تداعيات التوتر على محاربة “داعش” بأن المباحثات الرامية للتوصل إلى حل سلمي للأزمة السورية ربما تواجه تهديدا لمستقبلها، بما يلقي بظلاله على الاستراتيجية الأمريكية لمحاربة “داعش”. كما تحدثت المحطة عن “الإنذار الآني” لاحتمال ارتفاع أسعار النفط وتأثيرات ذلك على الولايات المتحدة.
ويتضح من ذلك أن جزء من الإعلام الأمريكي تناول المسألة وفق مصالحه الداخلية، وعواقب المسألة على الداخل الأمريكي، وبخاصة الجوانب الاقتصادية، فيما أبرز أخرين مآلات التصعيد بين الطرفين، وهي جهود صحفية مقدرة اعتمدت على الرصد والتحليل.
وفي بريطانيا، استدعت صحيفة الجارديان في تغطيتها الرئيسية الهجوم الذي وقع على السفارة البريطانية في 2011، وكذلك احتجاز رهائن أمريكيين عقب اندلاع الثورة الإسلامية في طهران عام 1979، حيث أكدت أنه من الشائع وقوع هجمات على السفارات الأجنبية في إيران. غير أنه من الملاحظ أن الجارديان اعتمدت في أغلب مصادرها على التصريحات الإيرانية شديدة اللهجة، وأوردت مختلف العبارات على لسان مسؤولين إيرانيين نددوا بحكم الإعدام وانتقدوا بشدة النظام السعودي، بل إنها أبرزت مخاوف الإيرانيين من حرمانهم من الحج هذا العام، رغم أن وزير الخارجية السعودي قال في مقابلة مع رويترز يوم الإثنين إن السعودية لن تمنع الحجاج الإيرانيين من أداء الشعيرة، وهو التصريح الذي أغفلته المحطة في تغطيتها.
الإعلام العربي
وسائل الإعلام العربية في مجملها لم تختلف في تناول الأزمة، وأظهرت موقفها بكل علانية بما لا يدع مجالا للشك أو التأويل، فأغلبها وقف في جانب السعودية، وآزر موقفها، لكنها اختلفت في درجة ما يمكن وصفه بالنصوص العدائية ضد إيران، وبرز ذلك في تغطيات المحطات الإخبارية العربية سواء تلك الممولة سعوديا أو قطريا أو إماراتيا، وتنافست هذه الوسائل في الكيل ضد إيران، لكن بدا أن “الجزيرة” على سبيل المثال الأقل تنديدا بالسياسات الإيرانية، بل إن الجزيرة- وعلى غير العادة- لم تدس وجهة نظرها إزاء الأزمة في السياقات الخبرية التي قدمتها، بل تعاملت بحرفية، وأفردت مساحات واسعة للموقف الإيراني وتصريحات المسؤولين الإيرانيين، وهي المساحات التي لم تجد لها موطأ قدم في أي من القنوات الإخبارية العربية الرئيسية مثل العربية وسكاي نيوز عربية وحتى الفضائيات الإخبارية المصرية، التي سيرد ذكرها لاحقا.
ولعل اتخاذ هذا الموقف من قبل “الجزيرة” يعكس توجه النظام القطري الذي لا يرى في إيران عدوا محتملا، كما هو الحال في السعودية والبحرين والإمارات على الترتيب.
وفي المقابل، كانت قناة العربية الإخبارية الأشد هجوما على النظام الإيراني والأعنف والأشرس إعلاميا، إذ تحولت المحطة المملوكة لأحد الأمراء السعوديين، إلى منبر لكل من يريد الهجوم على إيران، وهو موقف ربما يكون متناسقا مع السياسات التحريرية والتوجه الإعلامي لها، كطبيعة الحال في أغلب وسائل الإعلام.
أما الصحف السعودية وتلك الصادرة من لندن، مثل الشرق الأوسط والحياة، فكانت “ملكية أكثر من الملك”، فما فتأت أن شنت هجوما ضاريا على السياسات الإيرانية، لا يتسع المجال لذكرها.
الإعلام المصري
تنوعت التغطيات الإعلامية في مصر بين الداعمة للموقف السعودي، والمهاجمة لـ”التدخلات” الإيرانية في دول المنطقة. ورغم أن سياسات إيران في سوريا والعراق واليمن ولبنان تمثل الجزء الأكبر من هذا التدخل، إلا أن الكثير من الصحف والمواقع الإلكترونية ركزت بشكل رئيس على أزمتها مع السعودية، وكعادتها لجأت إلى العناوين الصحفية المثيرة لـ”الترافيك”، بهدف زيادة معدلات الدخول إلى الأخبار. ولم تقدم هذه المواقع أي وجهة نظر أو تحليل مستقل يسلط الضوء عليها، واكتفت بالنقل عن وكالات الأنباء أو حتى النقل (التي تعد سرقة أدبية) من بعضهم البعض، وهي مسألة شائعة في بعض المواقع.
غير أن الموقع الإلكتروني لجريدة الوطن، أورد تقريرا مفصلا عن الأزمة من زاوية جديرة بالإشارة إليها؛ حيث تساءل التقرير المكتوب بصياغة محترفة عن أسباب صمت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إزاء الأزمة، رغم الحديث عن “مجلس تعاون استراتيجي” بين السعودية وتركيا والذي تم الإعلان عنه منذ أيام خلال زيارة أردوغان للسعودية، والذي يشمل القضايا الأمنية والتعاون العسكري ضد الإرهاب.
وربما بتقدير أولي يكون موقع جريدة الوطن الأكثر تعاطيا مع الأزمة بالتحليل والرأي من حيث عدد وجودة المواد الصحفية المنشورة، بعيدا عن التصريحات المعلبة وأخبار وكالات الأنباء الجاهزة للنشر الفوري.
أما صحيفة اليوم السابع وموقعها الإلكتروني، فكان كعادته الأكثر تغطية للتصريحات التلفزيونية والتقارير المنشورة في مواقع إخبارية أخرى أو منقولة عن مراكز بحثية أو مقالات، وهو أمر لا اجتهاد صحفي فيه، على عكس التقارير التي تعتمد على خبرة محرر الشوؤن السياسية وعمليات البحث والترجمة المطلوبة لمزيد من العمق في التحليل.
خلاصة القول
ما سبق كان محاولة أمينة لرصد وتحليل تعامل وسائل الإعلام العربية وغير العربية مع التوتر السعودي الإيراني الأخير، واجتهادي فيه يخضع لميزان الخطأ والصواب، غير أن النتيجة التي يمكن الوصول إليها تتمثل في أن الإعلام- وباعتباره الوسيلة الإخبارية الرئيسية في عصرنا هذا- لا يمكنه بأي حال أن يكون في معزل عن الصراعات السياسية، بل بات جزءا منها ومحركا لها، يشعل الموقف أو يخمده، ينقل المعلومة أو يكتمها، يعرض بالنقد والتحليل ملابسات الحدث وأبعاده غير الواضحة أو يساهم في التضليل أو توجيه المتلقي نحو غاية محددة سلفا، قد لا تمت بصلة إلى السعي وراء الحقيقة.
ومن نافلة القول إن الإعلام لم يعرف يوما الحيادية أو الموضوعية، بل هو في لب مهمته منحازٌ، وهي قضية جدلية لن تُحسم يوما ما.. غير أن المتلقي يفترض دوما المصداقية في الوسيلة التي يفضلها، وهو ما يبرز حجم الضرر الواقع عليه في حالة أن هذه الوسيلة تضلله أو تدفع به إلى نتائج لا أساس لها.