“فى عالمنا العربى يتعامل الجميع على أن الصحافيين مجرد أقلام قابلة للضغط والكسر متى لزم الأمر، ولا يمكن أن يكونوا مستقلين”.
أنقل لك هذا الوصف المنطقي جدًّا من مقال بديع للكاتب السعودى المعروف جمال خاشقجى، وهو يرد أخيرًا على طرح اسمه المتواصل طوال فترة سابقة سواء على الصعيد السعودى عبر كتاب سعوديين، أو على الصعيد المصرى تحديدًا حيث مارس خاشقجى حرية رأى كبيرة فى انتقاد الأوضاع الداخلية في مصر، وانتقاد قضائها، وانتقاد المواقف السياسية للدولة، حتى بلغ هذا الجدل ذروته بصدور بيان غير مسبوق من وزارة الخارجية السعودية يقول إن كتابات وتعليقات خاشقجى لا تمثل الحكومة السعودية ولا أيًّا من هيئاتها.
منحت وزارة الخارجية السعودية على ما يبدو لخاشقجى صك الاستقلال، ما جعله يكتب مقالاً مطولاً فى صحيفة “الحياة”، يحكى فيه بعضًا من معاناة الكاتب الذى تحركه رأسه مع التصنيفات السياسية، ومع محاولات الفرق المتباينة إجباره على الانضواء تحت لوائها أو فتح النار عليه، وهى أزمة يعانى منها أى كاتب يريد أن يكتب رأيًا مستقلاًّ نابعًا من أفكاره ومواقفه، دون أن يُتهم أنه يكتب ما يُملى عليه من أى جهة.
ورغم ما واجهه ويواجهه خاشقجى من حملات وهجوم داخل مصر تحديدًا بسبب آرائه فيمكن أن أقول لك إننى مقتنع كما هو مقتنع أن بيان الخارجية السعودية قرر المقرر، وقال إنه يمثل نفسه، فمتابعة بسيطة لسيرته الذاتية تجعلك تدرك أنه دفع ثمنًا كثيرًا من مواقفه بتجارب صحفية لا تكتمل بسبب صدام مع جهات ما فى المملكة أو الخليج، بسبب تعبيره عن أفكاره التى قد تبدو قريبة لليبرالية فى أحيان ولتيار الإسلام السياسى أحيان أخرى، ولقوى إقليمية أو ضد قوى إقليمية، حسب رؤية من يقرأ وموقعه من الاستقطاب السياسى الحاد فى المنطقة.
فى مقاله البديع يحتفى خاشقجى بالحرية، ويطرح البديهى بأن هناك كُتابًا وإعلامًا يعمل وفق قناعاته، ربما توافق هذه القناعات أحيانًا مواقف بعينها أو تناهضها، لكن ذلك لا يعنى بالضرورة أن جهات تأمره أن يقول هذا ويكتب ذالك، لكن وهو يمنح نفسه هذا الشرف ويحتفى بأنه الصحفى الحر المستقل الذى يرتكز على بيان حكومى رسمى كبرهان على هذا الاستقلال، ينزع هذا الشرف عن الإعلام المصرى كله، هكذا تعميمًا، ولا يفترض عبر أدائه على موقع “تويتر” أن هناك صحفًا ووسائل إعلام وكتابًا مصريين يختلفون مع المملكة السعودية وسياساتها ويوجهون لها النقد والهجوم الشديد واللاذع أحيانًا، لأن تلك قناعاتهم أو وجهات نظرهم أو قراءاتهم للحاصل فى الإقليم، وليس لأن أوامر تأتيهم، أو أنهم يعبرون عن جهات فى مصر أو خارجها.
يطلب الكاتب جمال خاشقجى من الإعلام المصرى أن يساند المملكة فى موقفها الأخير من إيران، وهو الحاصل بالفعل بنسبة تزيد على 98%، لكنه يستغرب ربما أن هناك نسبة ما لديها رؤية مختلفة أو أداء يحرص على إظهار جوانب يعتقد أنها تغيب فى الإعلام المتعاطف كلية مع السعودية، ويعتقد أن للأزمة محاور متعددة وطرفين أساسيين، ومعالجتها مهنيًّا على الطريقة التى عالج بها خاشقجى نفسه الأزمة فى البحرين فى قناته “العرب” التى تم إغلاقها قبل أن تستكمل يومها الأول، يتطلب منح وجهات النظر جميعها فرصة العرض، لكن خاشقجى يعتقد أنه طالما هناك تحالف بين الدولة المصرية والمملكة، فلا بد أن يتبع الإعلام المصرى حكومته، وهو منطق يمكن قبوله فعلاً فى أوقات الأزمات الكبرى التى تهدد المصير العربى، لكن الغرابة فى أن خاشقجى لا يُلزم نفسه بهذا التحالف، ويمارس حريته كاملة فى نقد الأوضاع الداخلية المصرية، والمواقف والسياسات والأحكام القضائية المصرية، دون أن يطلب منه أحد احترام تحالف حكومته مع النظام المصرى الذى ينتقده، ويقول له “أما من عاقل يقول للكاتب السعودى (الحليف) قل خيرًا أو فاصمت”.
الكاتب الذى يحتفى بحريته الشخصية ككاتب وباستقلاله ينفى عن الإعلام المصرى هذه الحرية تمامًا، لا أنكر أن هناك محاولات للسيطرة على الإعلام فى مصر وتأميمه كغيره من الإعلام فى العالم العربى كله، لكن هذه المحاولات تجد من يقاومها وبعنف، وخريطة الإعلام المصرى زاخرة بالوسائل والصحف والمقالات والمواقع والبرامج التى تنتقد كل شىء بما فى ذلك رئيس الجمهورية نفسه الذى يتعرض للنقد الموضوعي والسخرية الفجة أيضًا.
بالأمس فقط استضافت قناة “دريم” كثيفة المشاهدة المعارض البارز حمدين صباحى، على الهواء مباشرة، تحدث فيه عن كل شىء متهمًا النظام بالظلم والاستبداد.
لكن ليس المجال هنا فى إثبات أن الإعلام المصرى حرًّا ما زال، على الأقل بالمقارنة بغيره فى المنطقة، وإنما بالتناقض بين كاتب يعتقد أن الحرية قيمة كبرى، ينسبها لنفسه ويحتفى بكونه حرًّا لا يعبر عن أحد ولا يسأله أحد في كل ما يتعرض له من قضايا “خارجية” تخص المحيط الإقليمى للمملكة “المرات التى تعرض فيها خاشقجى لشؤون سعودية أو خليجية تمت إقالته من رئاسة تحرير جريدة مرتين، وإغلاق قناة مرة”، لكنه يفترض أن الإعلام المصرى ليس حرًّا، وبالتالي فأى اختلاف من كاتب أو إعلامى أو صحيفة مع المملكة لا يعبر عن قناعات صاحبه، مثلما يعبر خلاف خاشقجى نفسه مع مصر عن قناعاته الشخصية، ما يدعوه للتحريض على الإعلام المصرى أكثر من مرة منها دعوته للتدخل الحكومى فى شؤون الإعلام لوقف ما وصفه بـ”الإساءة للمملكة”، فيبدو كمن يحتفى باستقلاله، ويطلب من المملكة والحكومة المصرية التدخل بحزم لنزع أى مظاهر استقلال عن غيره من الكتاب والإعلاميين المصريين، ويحرض على إعلاميين بعينهم، ويقول إن الإعلام المصرى كله هو “إعلام النظام”، ولو كان حرًّا ما حرض على إسكاته.
تستطيع أن تقول بهذا المنطق إن خاشقجى هو الصحفى الحر المستقل الوحيد فى العالم العربى، لأنه الوحيد الذى يحمل شهادة رسمية من حكومة بلاده أنه لا يمثلها، وبالتالى فإذا أردت أن تكون مستقلاًّ حرًّا مثله، فلا بد أن تحلل مضمون ما يكتب لتضع يدك على المعادلة التى تصنع الاستقلال..
“دعم السعودية المطلق دون أى محاولة للاختلاف حتى فى الوسائل أو مناقشة ولو محدودة للمبررات والأفكار، والترويج لتركيا، والدفاع عن الإخوان، واعتبار كل من لا يفعل ذلك مارقًا وتحريض السلطات على إسكاته”.
نقلاً عن التحرير