قبل نحو خمسة عشر يوما فوجئ جمهور المشاهدين دون سابق انذار أو إعلان، باختفاء برنامج «مانشيت» الذى يقدمه الإعلامى البارع جابر القرموطى على فضائية «أون تى فى» وهو واحد من أكثر البرامج مشاهدة فى القناة، وربما فى غيرها من القنوات الفضائية.
بنى جابر القرموطى جماهريته الإعلامية على بساطته وتلقائيته وفطرته السليمة ، وعدم شكليته التى أظهرته بصورة بصرية مدهشة تشبه قطاعات هائلة من مشاهديه، فضلا عن خبرته المهنية كمحرر اقتصادى فى صحيفة الحياة اللندنية ، ومجلة الأهرام العربى، وموقع وصحيفة اليوم السابع على امتداد نحو عشرين عاما.
وبطريقته الخاصة المميزة فى البحث عن المعلومة، والسعى لإثباتها بالتجربة والبرهان ، وبالوقوف على مسافة واحدة من أطرافها، صنع القرموطى عالما خاصا لبرنامجه قائماً بالأساس على الصدق والتوصل إلى الحقيقة من كل جوانبها، ورفض الاعتماد على أساليب الإثارة والدعاية والتحريض، فأكسب القناة والبرنامج مصداقية، دفعت المشاهدين للارتباط ببرنامجه منذ بدء بثه قبل نحو تسع سنوات، نجح خلالها فى التسلل إلى قلوبهم، حين ثبت لهم بالتجربة، أنه لم يستثمر نجاحه وانتشاره سوى فى خدمة مصالح عامة.
وحرص على أن تكون القضايا التى يتناولها تهم شرائح كبيرة من المجتمع المصرى، من خلال مناقشة وعرض أبرز العناوين والأخبار والتعليقات المنشورة فى الصحف والمجلات المصرية والمواقع الإلكترونية. ويوما بعد آخر تحول برنامج مانشيت إلى منبر لتلقى شكاوى المواطنين، التى سدت أمامهم المنافذ الرسمية، فحرموا من أخذ حقوقهم ،وإلى ديوان للمظالم ، يسهر فيه مقدم البرنامج ،مدفوعا بعزم لا يلين ، وإحساس آخذ بالمسئولية، وإيمان راسخ أن ولاءه الأول والأخير هو للمشاهد المواطن ،للتواصل مع السلطات التنفيذية لحل مشاكل المواطنين من جهة، ومراقبة السلوك الحكومى الخاطئ من جهة أخرى، بهدف إلقاء الضوء عليه سعيا لتصحيحه.
وبحثا عن سبب اختفاء البرنامج ، قرأت على أحد المواقع الإخبارية مقالا لجابر القرموطى غاية فى التهذيب والرقى بعنوان رسالة إلى أساتذتى فى القناة، تكشف أسباب توقف البرنامج وتنطوى على مشاعر محبة غامرة للقناة وللعاملين فيها، وعلى دعوة تتراوح بين الأمل والرجاء بالعدول عن القرارات التى أفضت إلى التوقف القسرى للبرنامج بسبب تعارض رغباته مع رغبات مسئولى القناة.
فقد فوجئ العاملون فى القناة بصدور قرار بتحويل محتوى برامج أون تى فى من قناة تلعب أدوارا ثقافية وسياسية واجتماعية إلى قناة رياضية تبث حصرا مباريات الدورى العام، وتنقل بقية البرامج منها إلى قناة أون تى فى لايف ،لأسباب مالية محضة. ونشأت المشكلة من أن مصدرى القرار لم يعتنوا بمناقشة العاملين فى القناة فى القرار قبل صدوره بوقت كاف لرفضه أو القبول به، بل بدأت الإعلانات المكثفة للدعاية للبرامج الرياضية فى الصحف ولوحات الإعلان التى غمرت الطرق و الكبارى والشاشات الإعلانية ، وهى دعاية لم يكن يحظى بها أى من برامج القناة الأخرى ، التى تحقق نسب مشاهدة عالية ، وتغيب عنها أموال شركات الإعلان بسبب الأدوار الجادة التى تقوم بها، والمناقشات الجسورة لمشاكل المجتمع المصرى .
وهى محنة تعانى منها كل وسائل الإعلام الجاد فى مصر ، التى تصر على أن تواصل عملها ، دون التراجع عن احترام المعايير المهنية وعن الالتزام بها ، وعن احترام عقلية المشاهد أو القارئ ، وعن الدفاع عن المشركات الوطنية ، التى يتمسك بها الرأى العام والأحزاب والقوى السياسية ، التى أقرها الشعب بعد موجتين متتاليتين من ثورته . حين اعترض بعض العاملين فى القناة على هذا القرار، برره مصدروه بأنه لافرق بين القناة العامة وقناة أون تى فى لايف، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لاتعرض البرامج الرياضية على القناة الثانية، ولأن هذا ليس سؤالا استفهاميا، وذاك ليس هو المبرر الحقيقى للتغير المفاجئ، بل المبرر هو إضافة النجاحات التى حققتها برامج مثل «مناشيت» و»السادة المحترمون» و»تلت الثلاثة» و»ست الحسن» وغيرها لدعم البرامج الرياضية الجديدة جذبا لأموال المعلنين!
منحت قناة أون تى فى ،بالنجاح الذى حققه إعلاميوها والعاملون بها، مكانة لا يستهان بها فى المجال الإعلام الفضائى، ومصداقية للدور الذى تقوم به بقدر كبير من الاستقلالية فى العمل الإعلامى، الذى منحها القدرة على الاستمرار والتميز، وليس من مصلحة القناة ولا المشرفين عليها تقييم تلك المكانة بقصرها على الجوانب المالية والتجارية ، لأن معظم القنوات الإخبارية لاتحقق أرباحا.
وإلى أن تجد هذه المشكلة حلا فإنه لا مناص فيما يبدو من الحل الذى يكتب عنه جابر القرموطى بأسى ومرارة وهو «أن ينخرط الخائف على ضميره ومن ضميره فى منظومة النفاق والتطبيل لولى النعم أو صاحب المؤسسة التى يعمل بها، أو الوزير الذى يتبعه. انخرط برغبتك وإلا ستنخرط غصبا عنك ، ادخل فى شلة ، كون لنفسك شلة ، تظاهر أن لك شلة، تكلم دائما عن الشلة، دافع بما ليس فيك عن الشلة . الشلة هى مصدر قوتك فى هذا الزمن. نافق وهادن والعب على الحبال. كن غيرك ولا تكن نفسك ، بدون الشلة ستجد صعوبات ، ستنجح لكن أكيد بعد عتاء السنين،لكنه نجاح بطعم تانى ، نجاح الأمل والتواضع ورضا النفس»!
تلك هى المشكلة فى بلادى ، أن أصحاب الكفاءات والمواهب الحقيقة لا يحصلون على ما يستحقونه من مكانة وتقدير واعتراف هم جديرون به، ويغيبون عن عمد فى غياهب التجاهل والنسيان ،فيما تبقى تحت الأضواء رموز مصنوعة بآلات الدعاية الجهنمية وبالشللية التى تضفى بريقا مزيفا على اعضائها وتوزع المصالح والمزايا والمناقب عليهم ، وتحرم الآخرين منها، لأنهم ببساطة بدون شلة تحمى كفاءتهم!