فى قطر، حظرت مؤخراً وزارة الثقافة هناك عرض الفتاة الدنماركية؛ وهو فيلم مرشح للأوسكار يحكى قصة أول رجل يحوّل جنسه البيولوچى من ذكر إلى أنثى، دون ذكر للأسباب (أسباب الحظر لا أسباب التحول) وذلك على عهدة سى-إن-إن. وهو الخبر الذى أوحى لى بموضوع هذه التدوينة. فالطبيعة ربما تكون لها دواعيها الفسيولوچية التى تدفعنا لنتفهم إحداث هذه التحولات فى عالم الأجساد البشرية، لكن عوالم اللغة ما هذا الشىء فيها بالتحديد الذى يجعل المذكر مذكراً والمؤنث مؤنثاً؟ مثلاً لماذا الشمس ومصر والحرب مؤنث، والقمر واليمن والسلام مذكر؟ ولماذا هناك كلمات مزدوجة الجنس مثل: العنق، طريق، سبيل، سوق، فتُعاملها اللغة معاملة المذكر تارة والمؤنث تارة أخرى؟ هل لجنس الكلمة بحد ذاته دلالة فى اللغة بغض النظر عن معنى الكلمة؟ وهل ثمة صلة بين فكرتنا عن ذلك الشىء الذى تدل عليه الكلمة وبين الجنس اللغوى الذى ندرجها تحته؟ هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى، تركتُها تتداعى أمامكم فى الأول لترينا فقط كيف أن المذكر والمؤنث موضوعة غامضة فى اللغة العربية. واطمئنوا، فأنا لا أنوى محاولة الإجابة عليها هنا، لأنها موضوعة أكبر وأعمق من المجال الضيق لهذه التدوينات، والبحث فيها قد يأخذنا لتاريخ ما قبل التاريخ؛ إلى اللحظات الأولى من وجود اللغة، لنشهد وهى تولد على لسان الإنسان العربى الأول من رحم رؤاه البِكر عن الكون.
فلنترك إذن ذاك الماضى السحيق وخلِّنا فى حالنا وواقعنا. وواقع حالنا هو الفتاة الدنماركية وداعش. والرابط بين الاثنين، الذى أنشأه ذهنى إنشاءً تعسفياً بحتاً، هو أن لداعش تحولات أيضاً من جنس لجنس، لا تستدعيها الطبيعة وإنما اللغة.. فبينما حُسِم الجنس البيولوچى للفتاة الدنماركية، نجد أن الجنس اللغوى لداعش غير محسوم أهو مذكر أم مؤنث! وها أنا أرانى قاعداً القعدة الحائرة لجعدار ‒وحيد سيف (الله يرحمه) فى فيلم الوزير جاى‒ وهو قاعد ممسك بصحيفتين بين يديه، يتنقل من هذه لتلك غير قادر على حسم أى أبراج الحظ فى الصحيفتين يطلع برجه: «فى الأخبار أنا عقرب، وفى المساء أنا جَدْى!» ومثلما كان حال جعدار مع برجه الفلكى الحائر بين الصحف ومصيره الشخصى المعلّق بها، كذلك يكون حالى مع داعش وجنسها اللغوى غير المحسوم بين مختلف الوسائل الإعلامية. فهو موقف، تنقسم إزاءه وسائل الإعلام المتحدثة بالعربية ثلاثة أقسام:
الأول هو القسم المتذبذب؛ تلك الوسائل التى نجد فيها الصيغتين التذكير والتأنيث معاً، مستخدمَتين جنباً إلى جنب عند الحديث عن داعش. مثالاً على ذلك لنأخذ الأهرام، حيث داعش مذكر تارة: داعش يهاجم وداعش يختطف، وتارة أخرى مؤنث: داعش تستخدم، وداعش تضرب. على نفس النهج، أو اللانهج، تسير أخبار اليوم: داعش يعلن مرة بالمذكر، وداعش تعلن مرة بالمؤنث. على هذا المنوال سنجد أسماء الصحف تتوالى فى هذا القسم: الوفد، التحرير، الدستور، صحيفة المصريون، موقع مصراوى. ومثلهم الجزيرة القطرية، وزمان التركية. فإذا فَتَحْتُم أى رابط من تلك الروابط، تطالعكم أمثلة لداعش المذكر وداعش المؤنث فى وسيلة إعلامية واحدة.
على العكس من القسم الأول، هناك وسائل إعلامية أخرى حسمت مع نفسها جنس داعش، فمن هذه الوسائل مَن حسبه مِن جنس المذكر على طول الخط، وهذا هو القسم الثانى. وتحت هذا القسم تأتى المصرى اليوم، واليوم السابع، والشروق. ومن خارج مصر: الشرق الأوسط اللندنية، سى-إن-إن. وتندرج معظم الفضائيات تحت هذا القسم أيضاً، إذ نجدها تُدخِل داعش فى عداد جنس المذكر، بدءاً من النيل للأخبار، ومروراً بقناة العربية، سكاى نيوز، وروسيا اليوم. كل رابط من هذه الروابط سيأخذكم إلى نماذج من أخبار داعش بصيغة المذكر كما تنقلها هذه الوسائل.
أما القسم الثالث والأخير فهو لمن عدّ الجنس اللغوى لداعش فى زمرة المؤنث مطلقاً. وهذا القسم قسم افتراضى محض. فحسب رصدى الشخصى القاصر، وعلى حد المسح غير المنهجى الذى قمت به لأُعِدَّ هذه التدوينة، لم أصادف أبداً ذلك الموقع أو تلك الصحيفة الذى والتى يعاملان جنس داعش معاملة الاسم المؤنث على طول الخط. هذا الفراغ عند المؤسسات الإعلامية قد يسدُّ مسده الأشخاص؛ وأعنى بذلك كتّاب المقالات وأصحاب الأعمدة. فباستطلاع عينات من هؤلاء الكتّاب، فإن نفس الحيرة حول جنس داعش وجدتها حاضرة بينهم، إذ يعتبره بعضهم مؤنثاً، ومثال هؤلاء هم عمرو الشوبكى: داعش الأوربية، وعادل حمودة: داعش تدخل، ومكرم محمد أحمد: داعش قد تختفى، وفهمى هويدى: داعش تنتظر. بينما يعدّه بعضهم الآخر من المذكر، مثل عمّار على حسن: داعش يستقطب، وعماد الدين أديب: داعش يريد.
والآن، بعد هذه الجولة الخاطفة، ما رأيكم؟ أهذا طبيعى أم أننا أمام ظاهرة غريبة؟ إذا اعتبرتموها ظاهرة، فهناك أكثر من مستوى للكلام عنها.. مثلاً يمكن لى التفلسف حول الدلالات الثقافية والاجتماعية للتذكير والتأنيث، وربما دلالاته النفسية أيضاً عند المتحدث، وهى دلالات لا بد أن تنوء بالذاكرة الجمعية البدائية للإنسان. أو مثلاً قد أحاول أن أستدعى قضايا حداثية من التى يروق لبعضنا إقحامها على اللغة ومناقشتها من منظورها؛ كمسألة الجنوسة مثلاً. وقد أعطف على مسألة المهنية، فأثير قضية عدم اتساق السياسة التحريرية لوسائل إعلامية يُفترض بها الحرفية وتوفر الحد الأدنى من معايير اللغة. لا تقلقوا، لن أفعل أياً من الأشياء المملة السابقة. ثم إن التفسير قد يكون من النوع البسيط هذه المرة. وهو تفسير قد يكون جاهزاً بالفعل فى أذهان معظمكم، لكن لا محيص (كما قال الشيخ حسب النبى للمعى أو عبد المنعم إبراهيم) من أن أسرده هنا من باب سد الخانة..
ففى حالة داعش نحن نتعامل مع كلمة نُحتت من الحروف الأوائل لما يسمى: الدولة الإسلامية بالعراق والشام، وهى كلمة لا تقف فى المعجم الصحفى حالة فريدة من نوعها، فهناك: الناتو، اليونيسف، اليونسكو، الأونروا، سى-إن-إن … الخ، بل ولدينا اختصارات عربية من أول حدتو، مروراً بفتح، وحماس، وانتهاءً بداعش. وفى كل هذه الكيانات كانت دوماً هناك تسمية مفتاحية تحدد الجنس اللغوى للكلمة المختصِرة لاسم الكيان، فإما تكون هذه التسمية حلفاً مثلاً فيُذَكّر، أو تكون التسمية منظمة أو وكالة أو مفوضية أو هيئة أو حركة فيؤنث. لكن هذا لا يمنع من أن هناك حالات، مثل حالة داعش، تكون جدلية فيما خصّ جنسها اللغوى،كالسى-أى-أيه مثلاً والكى-چى-بى السابق، فيتكلمون عن تلك الحالات الجدلية بالمذكر تارة وبالمؤنث تارة أخرى. والسبب هو أن الكلمة المفتاحية فى حالتهما تتغير ما بين شكل الكيان وبين وظيفته، فيُذكّر جنسها على أساس عَوْدِيّة جنسها على ’جهاز‘، أو يؤنث على أساس عَوْدِيّته على ’استخبارات‘. ولعل هذا هو السر أيضاً فى التحولات الجنسية لداعش..
فمن يجعلون جنس داعش مذكراً فى اللغة هم أولئك الذين يستدعونه فى أذهانهم أو يريدون الإيحاء به لجمهورهم بوصفه تنظيماً؛ أما من يؤنثون جنس داعش فى لغتهم فهم أولئك الذين يُعبّرون عن داعش باعتبارها دولة. ففى النهاية هم يسمون أنفسهم ’الدولة الإسلامية‘. فالتسمية المفتاحية هنا: الدولة. هذا هو التفسير البسيط للموضوع؛ البسيط لحد الإحباط فى رأيى، خاصةً وأننى لم أتفلحس (كلمة فصحى على فكرة) فأخرج عليكم باقتراح جنس لغوى لداعش يكون محسوماً ومُفحماً.
طيب، هل هذه المسألة من الأهمية بحيث تستحق أن أُفرد لها تدوينة تضيّع أنت وقتك فى قراءتها؟ فى رأيى لا، ليست بالمسألة المهمة أو التى تستحق، وربما وجب علىّ أن أعتذر لك عن أننى شغلتك بها أصلاً. فسواءً كان داعش تنظيماً أم دولة، وسواءً كنّا مواطنين داعشيين أو لم نكن، فتلك مجرد شكليّات فارغة لا تفرق من حيث الجوهر. ففى الآخِر، وسواءً هنا خارج جغرافية نفوذ داعش أو هناك بداخلها، لن يختلف مصير فيلم الفتاة الدنماركية. فهنا وهناك هو محظور، والحظر مصيره أن يمتد خارج الحدود الصغيرة لقَطَر السبّاقة فى الحظر، والحدود الهلامية لداعش التنظيم أو الدولة أياً يكون أو تكون، إلى الحدود الأوسع للإنسان العربى الحالى: من المحيط إلى الخليج كما تُغنّى؛ هذا الإنسان الذى يتكلم الآن لغة صارت فيها موضوعة التذكير والتأنيث مختلفة عمّا كانت عليه فى اللغة البكر التى تكلمها سلفه البدائى الأول.. ولكن هذه قصة أخرى.